حكم الشعب وحكم الله:
والذي نريد التركيز عليه هنا هو: جوهر الديمقراطية، فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام، إذا رجعنا إليه في مصادره الأصلية، واستمددناه من ينابيعه الصافية من القرآن والسنة، وعمل الراشدين من خلفائه، لامن تاريخ أمراء الجور، وملوك السوء، ولا من فتاوى الهالكين المحترقين من علماء السلاطين، ولا من المخلصين المتعجلين من غير الراسخين.
وقول القائل: إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل: "إن الحاكمية لله قول غير مسلم؛ فمبدأ "الحكم للشعب" - الذي هو أساس الديمقراطية - ليس مضادا لمبدأ (الحكم لله) - الذي هو أساس التشريع الإسلامي - إنما هو مضاد لمبدأ (الحكم للفرد)، الذي هو (أساس الدكتاتورية).
فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لايخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو: رفض الدكتاتورية المتسلطة، ورفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.
أجل، كل ما يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة، وبعبارة إسلامية: إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير.
المراد بمبدأ "الحاكمية لله":
وأحب أن أنبه هنا على أن مبدأ "الحاكمية لله" مبدأ إسلامي أصيل، قرره جميع الأصوليين في مباحثهم عن "الحكم" الشرعي، وعن "الحاكم" فقد اتفقوا على أن "الحاكم" هو الله عز وجل، والنبي مبلغ عنه، فالله - عز وجل - هو الذي يأمر وينهي، ويحلل ويحرم، ويحكم ويشرع.
وقول الخوارج: "لاحكم إلا لله" قول صادق في نفسه، حق في ذاته، ولكن الذي أنكر عليهم هو وضعهم الكلمة في غير موضعها، واستدلاهم بها على رفض تحكيم البشر في النزاع، وهو مخالف لنص القرآن الذي قرر التحكيم في أكثر من موضع، ومن أشهرها التحكيم بين الزوجين إن وقع الشقاق بينهما.
ولهذا رد أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - على الخوارج بقوله: "كلمة حق أريد بها باطل"؛ فقد وصف قولهم بأنه "كلمة حق"، ولكن عابهم بأنهم أرادوا بها باطلا.
وكيف لاتكون كلمة حق وهي مأخوذة من صريح القرآن: )إن الحكم إلا لله( (يوسف: 40).
فحاكمية الله - عز وجل - للخلق ثابتة بيقين، وهي نوعان:
· حاكمية كونية قدرية، بمعنى أن الله هو المتصرف في الكون، المدبر لأمره الذي يجري فيه أقداره، ويحكمه بسننه التي لاتتبدل، ما عرف منها وما لم يعرف، وفي مثل هذا جاء قوله عز وجل: )أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41)( (الرعد)، فالمتبادر هنا أن حكم الله يراد به: الحكم الكوني القدري لا التشريعي الأمري.
· حاكمية تشريعية أمرية، وهي حاكمية التكليف والأمر والنهي، والإلزام والتخيير، وهي التي تجلت فيما بعث الله به الرسل، وأنزل الكتب، وبها شرع الشرائع, وفرض الفرائض، وأحل الحلال، وحرم الحرام.
وهذه لا يرفضها مسلم رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا.
والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلا للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصا إذا وصلت إلى " كفر بواح" فيه من الله برهان.
ومما يؤكد ذلك: أن الدستور ينص - مع التمسك بالديمقراطية - على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، وهذا تأكيد لحاكمية الله، أي حاكمية شريعته، وأن لها الكلمة العليا.
ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة: أن كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع فهو باطل، وهي في الواقع تأكيد لا تأسيس.
لا يلزم - إذن - من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله؛ إذ لاتناقض بينهما.
ولو كان ذلك لازما من لوازم الديمقراطية، فالقول الصحيح لدى المحققين من علماء الإسلام: أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأنه لايجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذا لهم بلوازم مذاهبهم، فقد لا يلتزمون بهذه اللوازم، بل قد لا يفكرون فيه مطلقا.