خطبه الجمعه اليوم الموافق 8/7/2011
مظاهر الوسطية في الإسلام
إذا كان للوسطية كل هذه المزايا , فلا عجب أن تتجلى واضحة في كل جوانب الإسلام , نظرية وعملية , تربوية وتشريعية .
فالإسلام وسط في الاعتقاد والتصور . . . وسط في التعبد والتنسك . . . وسط في الخلاق والآداب . . . وسط في التشريع والنظام .
أ ـ وسطية الإسلام في الاعتقاد
1ـ فهو وسط في الاعتقاد : بين الخرافيين الذين يسرفون في الاعتقاد ؛ فيصدقون بكل شيء , ويؤمنون بغير برهان , وبين الماديين الذين ينكرون كل ما وراء الحس , ولا يستمعون لصوت الفطرة , ولا نداء العقل , ولا صراخ المعجزة .
فالإسلام يدعو إلى الاعتقاد والإيمان , ولكن بما قام عليه الدليل القطعي , والبرهان اليقيني , وما عدا ذلك يرفضه ويعدُّ من الأوهام , وشعاره دائماً :".. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة111).
2ـ وهو وسط بين الملاحدة الذين لا يؤمنون بإله قط , خانقين صوت الفطرة في صدورهم , مُتحدَّين منطق العقل في رؤوسهم . . . وبين الذين يعددون الآلهة , حتى عبدوا الأبقار , وألَّهوا الأوثان والأحجار !
فالإسلام يدعو إلى الإيمان بإله واحد لا شريك له , لم يلد ولم يولد , ولم يكن له كفواً أحد , وكل من عداه : مخلوقات لا تملك ضراً ولا نفعاً , ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ؛ فتأليهها شرك وظلم وضلال مبين :" وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ" (الأحقاف5) .
3ـ وهو وسط بين الذين يعتبرون الكون هو الوجود الحق وحده وما عداه ـ مما لا تراه العين ولا تلمسه اليد ـ خرافة ووهم , وهم الماديون الذين ينكرون كل ما وراء الحس , وبين الذين يعتبرون الكون وهماً لا حقيقة له , وسراباً"..بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا..(النور39) . فليس إلا وجود واحد هو الله , ولا شيء غيره . وهم القائلون بوحدة الوجود .
فالإسلام يعتبر وجود الكون حقيقة لا ريب فيها , ولكنه يَعبُر من هذه الحقيقة إلى أكبر منها , وهي من كوَّنه ونظَّمه ودبَّر أمره . وهو الله تعالى :" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا .."(آل عمران190ـ191).
4ـ وهو وسط بين الذين يؤلهون الإنسان , ويُضفُون عليه خصائص الربوبية ويعتبرونه إله نفسه , يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد , وبين الذين جعلوه أسير جبرية اقتصادية أو اجتماعية أو دينية ؛ فهو كريشة في مهب الريح , أو دُمية يحرك خيوطها المجتمع , أو الاقتصاد أو القدر .
فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مكلَّف مسؤول , عبد لله , سيد في الكون , قادر على تغيير ما حوله بقدر ما يُغيَّر ما بنفسه :".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.."(الرعد11) .
5ـ وهو وسط بين الذين يقدسون النبياء حتى رفعوهم إلى مرتبة الألوهية أو البنوة للإله … وبين الذين كذبوهم واتهموهم , وصبوا عليهم كؤوس العذاب .
فالأنبياء بشر مثلنا . يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق , ولكثير منهم أزواج وذرية , وكل ما بينهم وبين غيرهم من فرق :أن الله مَنَّ عليهم بالوحي , وأيدهم بالمعجزات :" قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (إبراهيم11) .
6ـ وهو وسط بين الذين يؤمنون بالعقل وحده مصدراً لمعرفة حقائق الوجود , وبين الذين لا يؤمنون إلا بالوحي والإلهام , ولا يعترفون للعقل بدور في نفي أو إثبات .
فالإسلام يؤمن بالعقل , ويدعوه للنظر والتفكير , وينكر عليه الجمود والتقليد , ويخاطبه بالأوامر والنواهي , ويكلفه فهمها والاستنباط منها , ويعتمد عليه في إثبات أعظم حقيقتين في الوجود وهما :وجود الله تعالى (1) , وصدق دعوى النبوة , ولكنه يؤمن بالوحي مكملا للعقل ومعينا له فيما تضل فيه العقول وتختلف , وما تغلب عليه الأهواء , وهاديا له إلى ما ليس من اختصاصه ولا هو في مقدوره , من الغيبيات والسمعيات وطرائق التعبد لله .
ب ـ وسطية الإسلام في العبادات والشعائر
والإسلام وسط في عباداته , وشعائره : بين الأديان والنَّحَل التي ألغت الجانب "الرباني"ـ جانب العبادة والتنسك والتأله ـ من فلسفتها وواجباتها , كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي والإنساني وحده . . . وبين الأديان والنَّحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج , كالرهبانية المسيحية .
فالإسلام يطلب من المسلم أداء شعائر محدودة في اليوم كالصلاة , أو في السنة كالصوم , أو في العمر مرة كالحج , ليظلَّ دائما موصولا بالله , غير مقطوع عن رضاه , ثم يطلقه بعد ذلك ساعياً منتجا , يمشي في مناكب الأرض , ويأكل من رزق الله .
ولعل أوضح دليل نذكره هنا :الآيات الآمرة بصلاة الجمعة :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الجمعة10).
فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة , حتى في يوم الجمعة : بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة , ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة , وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة , ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة , مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في حال , فهو أساس الفلاح والنجاح .
ج ـ وسطية الإسلام في الأخلاق
1ـ والإسلام وسط في الأخلاق : بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك , فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له , وبين غُلاة الواقعيين الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان , فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به , فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيرا محضا , وهؤلاء أساءوا بها الظن , فعدَّوها شرا خالصا , وكانت نظرة الإسلام وسطا بين أولئك وهؤلاء .
فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مركب : فيه العقل , وفيه الشهوة . فيه غريزة الحيوان , وروحانية الملاك . قد هي للنجدين , وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين , إما شاكرا وإما كفورا . فيه استعداد للفجور , استعداده للتقوى . ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى :" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس10).
2ـ وهو كذلك وسط في نظريته إلى حقيقة الإنسان : بين النَّحَل والمذاهب التي تقوم على اعتباره روحا علويا سُجن في جسد أرضي , ولا يصفو هذا الروح و لا يسمو إلا بتعذيب هذا الجسد وحرمانه , كالبرهمية وغيرها . . . وبين المذاهب المادية التي تعتبر الإنسان جسدا محضا , وكيانا ماديا صرفا , لا يسكنه روح علوي ولا يختص بأي نفحة سماوية .
أما الإنسان في الإسلام , فهو كيان روحي ومادي , كما يشير إلى ذلك خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام , فقد خلقه الله من تراب أو طين أو صلصال , وكلها تومئ إلى الأصل المادي لبدن الإنسان , ثم أودع الله في هذه المادة شيئا آخر , هو سر تميز الإنسان , ومنبع كرامته , وفيه يقول للملائكة :" فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (29الحجر).
وما دام الإنسان مؤلفا من قبضة الطين ونفخة الروح , أو بلفظ أخصر : من الروح والبدن , فإن لروحه عليه حقا , ولبدنه عليه حقا , وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه .
3ـ والإسلام وسط في النظرة إلى الحياة بين الذين أنكروا الآخرة , واعتبروا هذه الحياة الدنيا هي كل شيء , هي البداية والنهاية:" وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" (الأنعام29) , وبهذا غرقوا في الشهوات , وعبّدوا أنفسهم للماديات , ولم يعرفوا لهم هدفا يركضون وراءه غير المنافع الفردية الدنيوية العاجلة . . . وهذا شأن الماديين في كل زمان ومكان .. وبين الذين رفضوا هذه الحياة , وألغوا اعتبارها من وجودهم , واعتبروا شرا يجب مقاومته , والفرار منه فحرَّموا على أنفسهم طيباتها وزينتها , وفرضوا عليها العزلة عن أهلها , والانقطاع عن عمارتها والإنتاج لها.
فالإسلام يعتبر الحياتين , ويجمع بين الحسنتين , ويجعل الدنيا مزرعة للآخرة , ويرى العمل في عمارتها عبادة لله وأداء لرسالة الإنسان , وينكر على غلاة المتدينين تحريم الزينة والطيبات , كما ينكر على الآخرين انهماكهم في الترف والشهوات , يقول الله تعالى في كتابه :".. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ" (محمد12) , ويقول تعالى :" يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.."(الأعراف32) .ويذكر القرآن أن السعادة والحياة الطيبة في الدنيا من مثوبة الله لعباده المؤمنيين فيقول : "فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران148) , ويعلم المؤمنين هذا الدعاء القرآني الجامع لحسنتي الدارين : "..رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (البقرة201) .
وكذلك الدعاء النبوي :"اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري , وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي , وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي , واجعل الحياة زيادة لي في كل خير , والموت راحة لي من كل شر "(2).
د ـ وسطية الإسلام في التشريع
والإسلام وسط كذلك في تشريعه ونظامه القانوني والاجتماعي . فهو وسط في التحليل والتحريم بين اليهودية التي أسرفت في التحريم , وكشرت فيها المُحرَّمات , مما حرَّمه إسرائيل على نفسه , ومما حرَّمه الله على اليهود جزاء بغيهم وظلمهم , كما قال الله تعالى :" فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .."(النساء161) .
وبين المسيحية التي أسرفت في الإباحة , حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة , مع أن الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجيء لينقض ناموس التوراة بل ليكمله(3) ومع هذا أعلن رجال المسيحية أن كل شيء طاهر للطاهرين (4) .
فالإسلام أحلَّ وحرَّم ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر , بل من حق الله وحده , ولم يُحرَّم إلا الخبيث الضار , كما لم يُحل إلا الطيب النافع , ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنه "..يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ .."(الأعراف157) .
والتشريع الإسلامي وسط في شؤون الأسرة كما هو وسط في شؤونه كلها وسط بين الذين شرعوا تعدد الزوجات بغير عدد ولا قيد , وبين الذين رفضوه وأنكروه ولو اقتضته المصلحة وفرضته الضرورة والحاجة .
فقد شرع الإسلام الزواج بشرط القدرة على الإحصان والإنفاق , والثقة بالعدل بين الزوجتين , فإن خاف ألا يعدل , لزمه الاقتصار على واحدة , كما قال تعالى :".. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً .."(النساء3).
وهو وسط في الطلاق بين الذين حرَّموا الطلاق , لأي سبب كان , ولو استحالت الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق , كالكاثوليك , وقريب منهم الذين حرموه إلا لعلة الزنا والخيانة الزوجية كالأرثوذكس . . . وبين الذين أرْخَوا العنان في أمر الطلاق , فلم يقيدوه بقيد أو شرط , فمن طلب الطلاق من امراة أو رَجل , كان أمره بيده , وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب , وأصبح هذا الميثاق الغليظ أوهى من بيت العنكبوت .
إنما شرع الإسلام الطلاق , عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى , ولا يجدي تحكيم ولا إصلاح , ومع هذا فهو أبغض الحلال إلى الله , ويستطيع المُطلَّق مرة ومرة أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد . كما قال الله تعالى :" الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .."(البقرة229) .
والإسلام وسط في تشريعه ونظامه الاجتماعي بين "الليبراليين" أو "الرأسماليين" الذين يُدلَّلون الفرد على حساب المجتمع , بكثرة ما يعطى له من حقوق يطالب بها , وقلة ما يفرض عليه من واجبات يسأل عنها , فهو دائما يقول :"لي. . . " وقلما يقول:"علي. . ." , وبين الماركسيين والجماعيين الذين يضخمون دور المجتمع , بالضغط على الفرد , والتقليل من حقوقه , والحجر على حريته , ومصادرة نوازعه الذاتية .
هـ ـ التوازن بين الفردية والجماعية
وفي النظام الإسلامي تلتقي الفردية والجماعية في صورة متزنة رائعة , تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة , وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات , وتتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستقيم .
لقد تخبطت الفلسفات والمذاهب من قديم , في قضية الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما : هل الفرد هو الأصل والمجتمع طارئ مفروض عليه ؛ لأن المجتمع إنما يتكون من الأفراد ؟ أو المجتمع هو الأساس والفرد نافلة ؛ لأن الفرد بدون المجتمع مادة غفل (خام) , والمجتمع هو الذي شكلها ويعطيها صورتها ؛ فالمجتمع هو الذي يورث الفرد ثقافته وآدابه وعاداته وغير ذلك ؟
من الناس مَن جنح إلى هذا , ومنهم من مال إلى ذلك , واحتد الخلاف بين الفلاسفة والمشرعين والاجتماعيين والاقتصادي والسياسيين في هذه القضية , فلم يصلوا إلى نتيجة .
كان "أرسطو" يؤمن بفردية الإنسان , ويحبَّذ النظام الذي يقوم على الفردية , وكان أستاذه "أفلاطون" يؤمن بالجماعية ـ "الاشتراكية" ـ كما يتضح ذلك في كتابه " الجمهورية".
وبهذا لم تستطع الفلسفة الإغريقية ـ (أشهر الفلسفات البشرية القديمة) ـ أن تَلَّ هذه العقدة , وأن تخرج الناس من هذه الحَيرة , كشأن الفلسفة دائما في كل القضايا الكبيرة , تعطي الرأي وضده , ولا يكاد أقطابها يتفقون على حقيقة , حتى قال أحد أساتذتها : الفلسفة لا رأي لها !! لأنها تقول الشيء ونقيضه !!
وفي فارس ظهر مذهبان متناقضان : أحدهما فردي ويدعو إلى التقشف والزهد , والامتناع عن الزواج , ليعجل الإنسان بفناء العالم , الذي يعُجُّ بالشرور والآلام , وهذا هو مذهب آخر يمثل أقصى "الجماعية" هو مذهب "مزدك" الذي دعا إلى شيوعية الموال والنساء وتبعه كثير من الغوغاء , الذين عاثوا في الأرض فسادا , وضجت منهم البلاد والعباد .
وقد جاءت الأديان السماوية لتقيم التوازن في الحياة , والقسط بين الناس , كما قررَّ ذلك القرآن الكريم ," لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.."(الحديد25) , ولكن أتباعها سرعان ما حرَّفوها وبدَّلوا كلمات الله , ففقدت بذلك كثيرا من وظيفتها في الحياة , حين فقدت ميزتها الأولى وهي : ربانية المصدر . وتركت لرجال كهنوتها يُحلون لها ويُحرمون عليها دون إذن من الله تعالى :" اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة31) .
ولهذا , لم تقدم الأديان السابقة قبل الإسلام حلا لهذه المشكلة , فقد كان اليهود الذين تفرقوا في الأرض يؤيدون الفردية , بل الفردية الطاغية , وبتفكيرهم وسلوكهم القائم على الأنانية والعزلة عن المجتمعات :" وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .."(النساء161) , كما سجل عليهم القرآن العزيز .
وجاءت المسيحية أيضا تهتم بنجاة الفرد قبل كل شيء , تاركة شأن المجتمع لقيصر , أو على الأقل(5) , هذا ما يفهم من ظاهر ما يحكيه الإنجيل عن المسيح , حين قال : اعط ما لقيصر لقيصر , وما لله لله!!(6)
إذا طوينا كتاب التاريخ وتأملنا صفحات الواقع , فماذا ترى؟
إن عالمنا يقوم فيه صراع ضخم بين المذهب الفردي , والمذهب الجماعي فالرأسمالية تقوم على تقديس الفردية , واعتبار الفرد هو المحور الأساسي , فهي تدلَّله بإعطاء الحقوق الكثيرة , التي تكاد تكون مطلقة , فله حرية التملك , وحرية القول , وحرية التصرف , وحرية التمتع , ولو أدت هذه الحريات إلى إضرار نفسه , وإضرار غيره , ما دام يستعمل حقه في "الحرية الشخصية" , فهو يتملك المال بالاحتكار والحيل والربا , وينفقه في اللهو والخمر والفجور , ويمسكه عن الفقراء والمساكين والـمُعْوِزين , ولا سلطان لأحد عليه , لأنه "هو حر!".
و المذاهب الاشتراكية ـ وبخاصة المتطرفة منه كالماركسية ـ تقوم على الحط من قيمة الفرد والتقليل من حقوقه , والإكثار من واجباته , واعتبار المجتمع هو الغاية وهو الأصل . وما الأفراد غلا أجزاء أو تروس صغيرة في تلك " لآلة" الجبارة , التي هي المجتمع , والمجتمع في الحقيقة هو الدولة , والدولة في الحقيقة هي الحزب الحاكم , وإن شئت قلت : هي اللجنة العليا للحزب , وربما كانت هي زعيم الحزب فحسب , هي الدكتاتور !!
إن الفرد ليس له حق التملك إلا في بعض المتعة , والمنقولات , وليس له حق المعارضة , ولا حق التوجيه لسياسة بلده وأمته , وإذا حدَّثتْه نفسه بالنقد العلني أو الخفي , فإن السجون والمنافي وحبال المشانق له بالمرصاد !
ذلك هو شأن فلسفات البشر ومذاهب البشر , والديانات التي حرَّفها البشر , وموقفها من الفردية والجماعية , فماذا كان موقف الإسلام ؟
لقد كان موقفه فريدا حقا , لم يَمِل مع هؤلاء ولا هؤلاء , ولم يتطرف إلى اليمين ولا إلى اليسار .
إن شارع هذا الإسلام هو خالق الإنسان ؛ فمن المحال أن يشرع هذا الخالق من الأحكام والنظم ما يعطل فطرة الإنسان أو يصادمها . وقد خلقه سبحانه على طبيعة مزدوجة : فردية واجتماعية في آن واحد . فالفردية جزء أصيل في كيانه , ولهذا يحب ذاته , ويميل إلى إثباتها وإبرازها ويرغب في الاستقلال بشؤونه الخاصة .
ومع هذا نرى فيه نزعة فطرية إلى الاجتماع بغيره , ولهذا عُدَّ السجن الإنفرادي عقوبة قاسية للإنسان , ولو كان يتمتع داخله بما لذ وطاب من الطعام والشراب .
ولهذا قال الحكماء من قديم : الإنسان مدني بطبعه , وقال فلاسفة الاجتماع المحدثون : الإنسان حيوان اجتماعي .
والنظام الصالح هو الذي يراعي هذين الجانبين في حياة البشر : الفردية والجماعية , ولا يُطغى أحدهما على الآخر . فلا عجب أم جاء الإسلام ـ وهو دين الفطرة ـ نظاما وسطا عدلا , لا يجور على الفرد لحساب المجتمع , ولا يحيف على المجتمع من اجل الفرد , لا يُدلَّل الفرد بكثرة الحقوق التي تمنح له , ولا يرهقه بكثرة الواجبات التي تلقى عليه , وإنما يكلفه من الواجبات في حدود وُسْعه دون حرج ولا إعنات , ويقرر له من الحقوق ما يكافئ واجباته , ويلبي حاجته , ويحفظ كرامته , ويصون إنسانيته .
ولذلك تطبيقات كثيرة , وأحكام شتّى , تمثل هذا التوازن , أو هذه الوسطية :في حياة الفرد , وفي حياة الأسرة , وفي حياة المجتمع , وفي حياة الأمة , وفي حياة الدولة , وفي العلاقات الدولية و الإنسانية بصفة عامة . ولا يتسع المجال لإيرادها هنا . فلتراجع في مظانّها(7)