كلما قدم الأخ العقيد معمر القذافى فاصلاً فكاهياً جديداً من فواصله التى يتفوق فيها على كبار كوميديانات العرب والعجم، شعرت بالأسى والشفقة من أجل شيخ المجاهدين عمر المختار، وأخذت أتخيل روح جزار فزّان الكولونيل الإيطالى جراتسيانى وهى تصرخ ضاحكة من قاع الجحيم: (هل هذا هو ما كنت تحارب من أجله يا عمر؟
هل تذكر عندما قلت لى نحن معكم إلى نهايتكم أو نهايتنا؟.. ما رأيك فى هذه النهاية التى انتهى إليها شعبك؟.. ألم نكن ألطف بذمتك؟..
على الأقل كنا نقتل واحداً من كل عشرة.. بينما يقتل غيرنا عشرة فى كل واحد). أتخيل عندها عمر المختار وهو يبكى فى أسى، تماماً كما يبكى إلى جواره رفاقه أحمد عرابى ويوسف العظمة وعبدالقادر الجزائرى وعبدالمنعم رياض وعزالدين القسام وعبدالقادر الحسينى وغيرهم من الذين ضحّوا بأرواحهم الغالية من أجل طرد المستعمر الأجنبى واستبداله بمستخرب محلى يعيش ويستمر ويتوغل وينتشر.
هل من المناسب أن تأتى سيرة البكاء ونحن نتحدث عن العقيد القذافى؟ بالطبع لا، فنحن نتحدث عن رجل يمتلك حساً كوميدياً فريداً من نوعه، فهو كوميديان استثنائى ليست لديه أى رغبة فى إضحاك الجمهور، على العكس يتحدث بجدية شديدة وبملامح متجهمة ليقول ما لا يمكن أن يتفتق عنه ذهن العُصبة أولى خفة الدم من الرجال، هو ينتمى إلى مدرسة نجيب الريحانى وعادل إمام وبيتر سيلرز وجاك ليمون وبن ستيلر وغيرهم من الكوميديانات العظام الذين يُوقِعُونك على قفاك من الضحك وهم فى منتهى الجدية والصرامة، لكن الفرق بينهم وبين القذافى أنهم سيسعدون لو شاهدوك تضحك، أما القذافى وأجهزته الأمنية لو اكتشفوا أنك تضحك على كلامه فسيُوقِعُونك على قفاك من الضرب وستأخذ بالصرمة على دماغك بمنتهى الصرامة.
بالطبع كان يمكن أن يكون للرئيس القذافى منافسون شرسون فى مجال الترفيه السياسى من بين الحكام العرب، فمعظمهم كوميديانات بالفطرة، وسر تميزهم الكوميدى جميعاً أنهم يعتقدون أنهم يتكلمون بجد، وأن الآراء التى يطلقونها يتحرق التاريخ شوقاً إلى تسجيلها بأحرف من نور، لكن ما يمنع موهبة هؤلاء من الوصول إلى (أعزائهم المشاهدين) هو وجود مستشارين يكبتون هذه الموهبة ويقمعونها ويقومون بفلترة تصريحات رؤسائهم ظناً منهم أن تعُّرف الشعب على موهبة حكامه الكوميدية من شأنه أن يقلل احترام الشعب لرئيسه القائد المعلم، وأن من الأفضل أن يظن الشعب أن رئيسه رجل جاد أفضل من أن يعرفه على حقيقته كرجل دمه بينقّط عسل وسكر، عملاً بقول القائل (يا بخت من حكمنى وبكَّى الناس عليا ولا إنه يضحّكنى ويضحّك الناس عليا).
لكن الرئيس القذافى، ولحسن حظنا، ليس لديه مستشارون فهو مستشار نفسه، وليس لديه مُفَلْتِرون لأن الذى فى قلبه على لسانه ولذلك فكوميدياه تأتينا دون فلترة أو تقطير أو ترشيح كاملة العبث ومليئة بالكوليسترول وخالية من المواد الحافظة.
ربما كان أول ما يدعو للتأمل فى الرجل هو اسمه اللافت للنظر، الذى لا يستطيع أى منا أن ينكر دوره فى الشهرة العريضة التى حققها الرجل. كنت قد قرأت منذ فترة أن الاسم الذى يطلقه الأب على ابنه يسهم إلى حد بعيد فى تحديد معالم شخصيته، ولا أعتقد أن هذه القاعدة يمكن أن تنطبق على أحد مثلما يمكن أن تنطبق على الرئيس معمر القذافى، فهو حقاً اسم على مسمى، (معمر) فى الحكم إلى ما شاء الله، و(قذاف) بكل ما لا يخطر على البال من آراء وأفكار،
ذهبت إلى القاموس المحيط للفيروز آبادى محاولاً أن أقرأ اسم الرجل قراءة لغوية تقربنى منه، وجدت الفيروز آبادى يقول إن القذِّيفى فى اللغة العربية هو السبَّاب الذى يقوم بالرمى بالحجارة، وأن القُذُف هو الموضع الذى يزل عنه الشخص ويهوى، وأن الناقة القاذف هى التى تتقدم من سرعتها وترمى بنفسها أمام الإبل، وأن القذافة هى المنجنيق. وجدت كل التصريفات الممكنة لكلمة (قذف)، لكننى لم أجد تصريف كلمة (قذافى) نفسها، فقررت أن أصرف النظر عن محاولة تأمل الرجل لغوياً وأكتفى بتأمله سياسياً ثم لونياً.
وربما كان أبرز ما توصلت إليه أنه يُحسب للرئيس القذافى أنه كان أسبق الرؤساء العرب إلى عمل أكثر من نيولوك فكرى وسياسى، خصوصاً خلال السنوات الماضية التى تحول فيها من الإيمان بالاتحاد العربى إلى الإيمان بالاتحاد الأفريقى، ومن يدرى لعله يتحول قريباً إلى الإيمان بالاتحاد السكندرى، خاصة بعد نجاة الأخير من شبح الهبوط إلى الدرجة الثانية.
وقد قام القذافى بهذه المراجعة الفكرية دون الاستعانة بسلاح التلميذ أو دليل المراجعة النهائية التى لا يستغنى عنها أى طالب نبيه، بل قام بها من تلقاء نفسه خبط لزق، مدركاً أهمية النيو لوك فى وقت لم تكن حتى شيرين وجدى قد تنبهت إلى أهميته. والملاحظ أن الرجل على كثرة ما تبدّل وتعدّل من أفكاره ونظرياته لم يتخل يوماً عن عشقه للون الأخضر الذى اتخذه رمزاً لكتابه المكدس الحاوى لعصارة أفكاره، وهى عصارة أشد نفعاً وتأثيراً من عصارة المعدة ذات نفسها.
قام القذافى بتغيير توجهه السياسى والفكرى كثيراً لكنه لم يفكر حتى فى إدخال درجات جديدة على لون الكتاب الأخضر، بالمناسبة لم يقل لنا مرة ما هى درجة لون الكتاب الأخضر، هل هو أخضر زرعى أم أخضر بوستاج كرنبى أم أخضر (فانتوش الفاشيا) كالذى استخدمته الفنانة سميحة توفيق فى مسرحية ريا وسكينة.
عموما لو استعنا بالتفسير التآمرى نستطيع أن نتفهم سر التمسك باللون الأخضر فى ظل الغزل اللاعفيف الذى يتبادله القذافى مع الأمريكان، لنرى أن هذا اللون هو الأنسب فى ظل هيمنة الدولار الأخضر سياسياً على العالم حتى لو لم يكن مهيمناً اقتصادياً، وهو أمر أعتقد أنه من الممكن أن يكون مفيداً لتجار العملة فى ليبيا الذين يمكن أن تسأل أياً منهم (معاك أخضر؟) دون أن تتعرض للقبض عليك، لأن ذلك لو حدث بإمكانك أن تقول مدافعا عن نفسك (أنا قصدى الكتاب الأخضر مش الدولار الأخضر).
على أى حال لست أدرى ما الذى أوحى للرئيس القذافى أن يختار للكتاب الذى يحمل خلاصة فكره فى الحياة اسم (الكتاب الأخضر)، خاصة وليبيا بلد صحراوى فى أغلبه، ربما كان الرجل متأثراً بأسطورة الرجل الأخضر الذى حوّله ضغط الآخرين عليه واضطهادهم له إلى سوبر هيرو تنهار أمامه أعتى القوى، ولو كان هذا التفسير صحيحاً لحقَّ لليبيين أن يحمدوا الله أنه لم ينجذب إلى أسطورة الرجل الوطواط (باتمان)، إذ لكان اللون الأسود وقتها هو اللون الرسمى للدولة، ولأصبح الوطواط الحيوان القومى لليبيا، صحيح أن السواد موجود فى كل الأحوال، لكن عدم رؤيته وجهاً لوجه طيلة العمر أمر صعب، ولذلك تظل العشرة مع الأخضر أفضل حالاً.
ربما يبدو هذا التحليل لعشق القذافى للون الأخضر تحليلاً هازلاً، ولكن من قال إن هناك ما يدعو للجدية ونحن نتكلم عن الرئيس القذافى، هل رأى أحدكم الرجل وهو يقوم بتغمية عينى الرئيس الجزائرى بوتفليقة عند أخذ الصور الرسمية للقمة، لقد حمدت الله أن روح الطفولة البريئة لم تتملكه أكثر من ذلك، ليقوم مثلا بعمل قرون لأقرب رئيس يقف إلى جواره، إذ لربما اندلعت حرب عربية أكثر ضراوة من داحس والغبراء.
عندما شاهد صديق لى الصورة قال لى منفعلا: نفسى أفهم على ماذا يضحك باقى الزعماء، كان له تحليلات غير قابلة للنشر، لسفالتها وهزلها فى نفس الوقت، لكنها فى رأيى تحليلات بعيدة عن الصواب تماماً، ففى رأيى المتواضع أن الزعماء يضحكون فرحاً بوجود القذافى وسطهم، فهو بكل ما يفعله ويقوله مصدر من مصادر شرعيتهم واستمراريتهم فى مناصبهم.
ولكى أوضح لك أكثر دعنى أقل لك إن مشكلة القذافى أنه لم يعد عبئاً على شعب ليبيا فقط، بل صار عبئاً على باقى الشعوب العربية التى كلما ضاقت صدورها بحكامها وظلمهم ومهازلهم وجدوا لدى أبواق الحكام نغمة مستحيلة المقاومة تقول (احمدوا ربنا أن رئيسكم ليس كالقذافى)، وبالطبع لا يستطيع أحد حينها أن يمنع نفسه من أن يقول (ألف حمد وشكر.. تستاهل الحمد يا رب).
قال لى صديقى: طيب ممكن تختم كلامك هذا بأن تقول لى ما الفرق بين الرئيس القذافى وباقى الزعماء العرب، قلت له: الزعماء العرب يشتغلون لشعوبهم فى الأزرق.. وحده الرئيس القذافى يشتغل لشعبه فى الأخضر».