مشهد1: التقى عقربا الساعة عند تمام الخامسة مساء يوم الأربعاء 2 فبراير 2011، اصطف عشرات آلاف البشر حاملين لافتات كتب عليها "الشعب يريد إسقاط النظام" بالعربية مرة وكتبت العبارة ذاتها على لافتة أضخم " people demand the removal of the regime" بالإنجليزية مرة، والجيش يقابلهم في صمت مهيب بمجنزراته وضباطه وجنوده، بينما المتظاهرون لا ينفكون عن ترديد جملة "الشعب يريد إسقاط النظام".
مشهد 2: ولكن على ما يبدو جد جديد، آلافات بشرية أخرى تأتي في الجهة المقابلة من ناحية المتحف وميدان عبد المنعم رياض، الشكل غير الشكل، والهتاف غير الهتاف، رافعين لافتات كتب عليها "نعم لمبارك نعم للاستقرار" قادمين بسرعة كبيرة في اتجاه معاكس للمظاهرة الأساسية، قبل أن يبدأ الطرفان في تقاذف وتبادل الطوب.
مشهد 3: أحد الضباط المسئولين عن المجنزرات الفاصلة بين الطرفين يأمر الضابط الأقل منه رتبة بتعديل وضعية المدفع الرشاش وإطلاق النيران لتفريق المتظاهرين، الضابط ينظر له بمقلتين يسبحان سبحاً في الدموع قبل أن يقوم بوضع سونكي السلاح الخاص به في فمه ويشرع في التخلص من نفسه على أن يفتح النار على بني جلده قبل أن يمنعه من حوله عن ما انتوى، لتنتابه بعدها حالة انهيار عصبي بالغة.
.......................
المشاهد الثلاث السابقة لم تكن كابوساً نخشى تجسده على أرض الواقع، أو حتى وريقات متناثرة من أجندة مواطن متشائم توقع فيها القادم الأسود، السطور الماضية كانت سطوراً نابضة بالحياة اتخذت مواقعها في الأماكن والأزمنة المذكورين أعلاه قبل سويعات قليلة من خط هذه الكلمات، إنه الواقع الذي جعل من المشهد بميدان التحرير كثير الشبه بشوارع غزة وخان يونس، عندما يقذف المواطنون الاحتلال بالطوب.
ولكن في مصر طرفي النزاع كانا مصريين حتى النخاع، ولكن وقف بينهما جيش وطني منسلخ بالأساس من جلد وذرية هذا الطرف وذاك، بينهم ضابط ربما يكون أبوه خلفه وخاله أمامه، فبات الطرفان يضغطان بكل قوتهما على هذا الضابط المسكين حتى أوصلاه إلى مرحلة التفكير في الانتحار.
فتيل المشكلة
ونظراً لحالة الغيبوبة الإلكترونية التي كنا نعيشها والتي حرمتنا من التواصل على مدار الأيام الماضية، فيمكننا أن نعيد تلخيص الحكاية في كبسولة معلوماتية مضغوطة كالتالي..
بدأت مظاهرات الغضب يوم 25 يناير الماضي احتجاجا على سياسات اقتصادية مذلة وأخرى أمنية، وتزامن ذلك مع عيد الشرطة المصرية التي تعاملت بعنف بالغ مع المتظاهرين الذين تواصلوا لليوم التالي وأغراهم نجاح اليوم الأول إلى تصعيد سقف مطالبهم إلى حد إسقاط النظام فازداد عنف الأمن وشراسته.
وكان يوم الجمعة المسمى بـ"جمعة الغضب" الذي كان بحق اسما على مسمى، بلغ فيه العنف الأمني أقصى درجاته في القاهرة والمحافظات، وبدأ الجيش في الانتشار في الشوارع وانسحبت الشرطة إلى حيث لا نعلم وبدأت عمليات السرقة والنهب والبلطجة في كل بقعة من بقاع الجمهورية وخرج الرئيس على الناس بإقالة الحكومة ثم تعيين نائب له في اليوم التالي، فاشتعل المتظاهرون غضباً من جديدً لأن طمومحهم كان أكبر من ذلك.
واستمرت التظاهرات أيام السبت والأحد والإثنين والثلاثاء وسط حالة من الانفلات الأمني التي بدأت تتراجع نسبياً، إلى أن خرج الرئيس بخطاب جديد يعلن فيه عدم ترشحه من جديد والنظر في الطعون المقدمة في عضوية أعضاء البرلمان وإجراء إصلاحات دستورية تشمل تعديل المادتين 76 و 77 الخاصة بالرئاسة فضلا عن تحديد مدة الرئاسة.
خرجت يوم الأربعاء مسيرات مؤيدة للرئيس مبارك في ميدان مصطفى محمود انسل بعضهم على ما يبدو إلى ميدان التحرير وبدأوا في الاشتباك مع المتظاهرين المناهضين للنظام في مشهد يحتاج فيه العقل بعض الوقت للاستيعاب وتتحشرج الكلمات في الحلق والصدور وتنحبس الدموع في الأعين.
ميدان التحرير بالتأكيد مش هيطير
لا يمكن لأحد أن يتوجه بأصابع الإدانة إلى انتفاضة شباب من نفس طينة شبابنا وقرائنا، انتفضوا على سنوات من القهر والفقر والبطالة والإيد البطالة التي كلّت من قلة العمل وتسول لقمة العيش، انتفضت على ظلم وقهر وقمع "بدلة الباشا".
ولا ننكر أيضاً أن التنازلات التي قدمها الرئيس مبارك تنازلات لا يمكن غض الطرف عنها تشمل مطالبات بحّت حناجر الناس سنوات طوال من أجل حتى مناقشتها، ليبقى السؤال هل نبقى في ميدان التحرير حتى إسقاط النظام ولو ذهب ذلك بكل من في الميدان؟
الوعود التي انتزعها الشعب خلال الأيام الماضية بلا شك وعود رائعة ولكنها تبقى مجرد كلمات يمكن التراجع عنها في أي وقت، وبما أن تقصّي نوايا البشر أمراً مستحيلاً فلا حل أمام الجميع سوى إعطاء مهلة لترى تحقق هذه التوقعات على أرض الواقع.
إن كتب لها شهادة الميلاد فقد نجح هذا الجيل في أن يتخلص من نظام فاسد ويؤسس لمناخ وبيئة نظيفة مضادة لكل مقويات الفساد والسرقة وغيرها، وإذا لم تتحقق الوعود وبقيت حبيسة الكلمات فطريق الميدان مفتوح، فسنحوله جحيماً يلتهم الكاذبين الذين يعدون ولا يوفون ولن يكون إسقاطهم وقتها كافياً.
غرفة العناية المركزة
ربما يكون من بين من يقرأ تلك السطور من يرى في مغادرة الميدان خيانة لانتفاضة 25 يناير، وتراجعاً عن حركة الشعب وتقهقراً أمام مراوغات الحكومة ولكن عليه أن يعلم التالي..
في نفس وقت كتابة هذه السطور تجري حرب على أشدها بين أجهزة استخباراتية عدة تنافساً على الشارع المصري، في نفس هذه اللحظات تسيل دماء الأبرياء بالمئات وعدد الجرحى قد تخطى الـ 500 شخص والعدد متواصل، في نفس هذه اللحظات تلقى قنابل المولتوف من أشخاص مجهولين من فوق أسطح العمارات على المتظاهرين دون تفريق، في نفس هذه اللحظات يتم الدفع بالناس دفعاً لمواجهة وشيكة جداً مع قوات الجيش.
في نفس هذه اللحظات بدأت بطون تأن جوعاً بعد أن انقطعت عوائلها عن العمل، في نفس هذه اللحظات تتكبد البورصة المصرية مليارات رهيبة أتت بالأساس من جيوب البسطاء الذين يتظاهرون في الميدان، في نفس هذه اللحظات يجلس أبي وأبوك وأخي وأخوك بالشوم في الشوارع حماية لبيته وأرضه وعرضه وبالتأكيد لن يبقى هناك للأبد.
إلى كل من يرفض مغادرة الميدان عليه أن يعلم أن مصر حالياً في غرفة العناية المركزية يجب إنقاذها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، وإن كانت العلة في النظام فقد بات أعرجاً لا خيار أمامه سوى الرضوخ لكلمة الشعب وإلا فسيحاكموهم في نفس قلب الميدان الذي شهد انتفاضتهم.
ولا تنسوا الضابط الشريف الذي حاول الانتحار رافضاً إراقة دمائكم التي تريقونها بعضكم بعضاً
وفي نفس هذا المكان الذي اعتدنا فيه أن نعدد 3 اسئلة ويزيد، إلا أننا لن نسأل أكثر من التالي..