هؤلاء هم سلفُنا الصالحون -بحقّ-؛ فأين نحنُ منهُم -يا خَلْق-؟
!
هذه فوائدُ ودُرَرٌ التقطتُها مِن ترجمةِ الإمام عبدِ الرحمن بن عَمرو الأوزاعيِّ -المتوفَّى سَنَةَ (157هـ)- مِن كتاب «سير أعلام النُّبلاء»-، الواقعةِ في نحوٍ مِن خمسٍ وعشرينَ صفحةً...
فإليكُموها، وبعضَ تعليقاتِي عليها:
1- كان يسكُنُ ... بدمشق، ثُمّ تحوَّل إلى بيروت؛ مُرابِطاً بها إلى أنْ مات...
قلتُ:
هكذا كان عُلماؤُنا؛ يُعَلِّمُون، وفي سبيل الله يُجاهدُون... لكنْ؛ كان للجهادِ يومَها ضوابطُهُ وأُصولُهُ...
وليس كحالِنا اليومَ!
تصدّره الهُوج، وكُلُّ مُمارٍ لَجُوج...
2- قول العبّاس بن الوليد، عن أبيه -في الأوزاعي-: عجِزت المُلوكُ أن تُؤدِّبَ نفسَها وأولادَها أدبَ الأوزاعيِّ في نفسِهِ..
قلتُ:
هذا تحقيقٌ مِنه -رحمه الله- لقولِ الله -تعالى-: {والذين جاهَدُوا فينَا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنا}...
فمتَى نكونُ كذلك؟!
متى؟!
3- دَخَلَ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ والأوزاعيُّ على مالِك، فلمّا
خَرَجَا، قال: أحدُهما أكثرُ عِلماً مِن صاحبِه، ولا يصلح للإمامةِ،
والآخرُ: يصلُحُ للإمامةِ -يعني: الأوزاعي؛ للإمامةِ-.
قلتُ:
فليس بالعلمِ وحدَهُ تكونُ الإمامةُ!
{وجعلنا منهُم أئمَّةً يَهْدُونَ بأمرِنا لمّا صَبَرُوا وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُون}..
و: بالصَّبرِ واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدِّين...
4- اختلفَ سُفيانُ الثُّوريُّ والأوزاعيُّ في مسألةٍ فقهيَّةٍ
مَبنيَّةٍ على حديثٍ، فقالَ الأوزاعيُّ: ... تُعارِضُنِي بيزيد -رجُلٌ
ضعيفُ الحديث-!! وحديثُهُ مُخالِفٌ للسُّنَّةِ!؟!
فاحْمَرَّ وجهُ سُفيان!
فقال الأوزاعيُّ: كأنَّكَ كرهتَ ما قلتُ؟!
قال: نَعَم.
فقال: قُم بنا إلى المَقام نَلْتَعِنُ أيُّنا على الحقِّ..
قال: فتبسَّمَ سُفيانُ لَمَّا رآهُ قد احتدَّ.
قلتُ:
في هذا الخَبَر فوائد:
أ- تعظيم السُّنَّةِ، والغضبُ عند مُخالفتِها..
ب- اختلافُ أئمَّة العِلمِ فيما بينهُم -ولو في مسائل فقهيَّةٍ-.
ج- المواجهة بالحقِّ بين العُلماء...
د- التلاعُنُ -وهو المُباهلةُ- على الحقِّ، ولو في مسائلَ فقهيَّةٍ -للثِّقَة فيها-.
هـ- مُقابلةُ الحِدَّة بالابتِسامةِ، وعدم مُواجهتُها بمثلِها؛ لا على مذهب: أنتَ تئق، وأنا مئق؛ فكيف نتّفق؟!
5- قال أبو إسحاق الفَزاريُّ: ما رأيتُ مثلَ الأوزاعيِّ والثَّوريِّ:
فأمّا الأوزاعيُّ؛ فكان رجلَ عامَّةٍ.
وأمَّا الثوريُّ؛ فكان رجُلَ خاصَّةِ نفسِهِ.
ولو خُيِّرْتُ لهذه الأُمَّةِ لاخترتُ لها الأوزاعيَّ -يُريدُ: الخِلافةَ-.
وزادَ في روايةٍ -مُعَلِّلاً-: لأنَّه أرْفَق الرَّجُلَيْنِ.
قلتُ:
فلِرجُلِ العامَّةِ صِفاتٌ وخصائصُ لا تُوجدُ لِرجُلِ الخاصَّةِ الذي قد يكونُ أكثرَ علماً مِن الأولِ...
فالعامَّةُ قد تحتاجُ إلى الرِّفْقِ أكثرَ ممّا تحتاجُه مِن العِلم..
وهذا أمْرٌ مُهْمَلٌ -جدًّا جدًّا- في مقاييسِ كثيرٍ مِن القوم -اليوم-!
فليتَهم يتَّعِظُون...
6- عن الشافعيِّ؛ قال: ما رأيتُ رجُلاً أشبَهَ فقهُهُ بحديثِهِ مِن الأوزاعيِّ.
قلتُ:
وهكذا مذهبُ أهل الحديث -رضيَ اللهُ عنهُم-.
ومع ذلك؛ تسمعُ مَن يقولُ في شيخِنا -أو غيرِه-: محدِّثٌ وليس بفقيه!
ويا
لَيْتَهُم (!) استمرُّوا على ذلك؛ لَهانَ الخَطْبُ -إذَن-؛ لكنَّهُم
سَلَبُوهُ -بَعْدُ- صفةَ المحدِّثِ، ثُمَّ شَكَّكُوا -بعدُ- بعقيدتِهِ!!
كُلُّ ذلك خبط عشواء!!
7- قالَ أحمدُ في الأوزاعيِّ: حديثٌ ضعيفٌ ورأيٌ ضعيف!
قلتُ:
(أوَّلَ)
الإمام الذهبيُّ هذه الكلمةَ على معنَى (كونه يحتجُّ بالمقاطِيعِ،
وبمراسيلِ أهل الشَّام... لا أنَّ الإمام في نفسِهِ ضعيف)!
وقد نَقَلَها الحافظُ ابنُ حَجَر على ظاهر معناها في «التهذيب»، فقال: حديثُهُ ضعيف.
وإنْ كان معنى الكلمة (الأولى) على ما ذكرَه الذهبيُّ؛ فما معنَى قوله -بَعْدُ-: (رأيٌ ضعيفٌ)؟!
وحديثُ الأوزاعيِّ في الكُتُبِ السِّتَّةِ...
وهذا لونٌ آخرُ (!) مِن اختلافِ العُلماءِ في الجَرحِ والتعديلِ، وكذا في فَهمِهِم لألفاظِ الجَرحِ والتعديل!
ومع ذلك؛ لمْ يُضَلِّلْ بعضُهُم بعضاً! ولمْ يُخاصِمْ بعضُهُم بعضاً!!
8- قال الأوزاعيُّ: كان هذا العلمُ كريماً يتلقَّاهُ الرِّجالُ بينهُم، فلمّا دَخَلَ في الكُتُبِ دَخَلَ فيه غيرُ أهلِهِ.
قلتُ:
فكيفَ لو أدركَ الأوزاعيُّ عالمَ الإنترنت! ودُنيا الأسماء المُستعارةِ! وأجواءَ الألقاب الفخمة الطنَّانة؟!
كيف
لو أدركَ مَن لمْ يُعْرَفْ إلاّ بالأجواءِ الآسِنة، والتي وُجودُها
وُجودُهُ؟! فلذا يحرصُ -جدًّا- على استمرارِها وبقائها -ولو مِن غيرِ
نقائها-....
9- قال إسحاقُ بنُ راهوَيه: إذا اجتمعَ الثَّوْرِيُّ والأوزاعيُّ ومالكٌ على أمْرٍ: فهو سُنَّةٌ...
... فعلَّقَ الإمامُ الذهبيُّ -بقولِهِ-:
«بل السُّنَّةُ ما سَنَّهُ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- والخُلفاءُ الراشدُونَ مِن بعدِهِ.
والإجماعُ:
هو ما أجْمَعَتْ عليه عُلماءُ الأُمَّةِ قديماً وحديثاً إجماعاً ظنيًّا
أو سُكوتِيًّا؛ فمَن شذَّ عن هذا الإجماعِ مِن التَّابعِين أو تابعِيهم
لقولٍ باجتهادِه احتُمِلَ له.
فأمَّا مَن خالفَ الثَّلاثةَ المذكورينَ مِن كِبارِ الأئمَّةِ، فلا يُسَمَّى مُخالِفاً للإجماعِ، ولا للسُّنَّةِ.
وإنَّما
مُرادُ إسحاق: أنَّهُم إذا اجتمعُوا على مسألةٍ فهو حَقٌّ غالِباً، كما
نقولُ اليومَ: لا يكادُ يُوجدُ الحقُّ فيما اتَّفَقَ أئمَّةُ الاجتهادِ
الأربعةُ على خلافِهِ.
مع
اعترافِنا بأنَّ اتِّفاقَهُم على مسألةٍ لا يكونُ إجماعَ الأُمَّةِ،
ونَهابُ أنْ نَجزِمَ في مسألةٍ اتَّفَقُوا عليها بأنَّ الحقَّ في خلافِها».
قلتُ:
فلْيُقارِن
هذا الكلامَ المُحرّرَ مَن جَعَلَ قولَ (بعضِ النَّاسِ) كأنَّما هو
قُرآنٌ كريمٌ لا يأتِيهِ الباطلُ مِن بينِ يدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ
-بلسانِ الحالِ أو المَقال-!!
وليتَّقِ اللهَ ربَّه، ولْيُنْزِلِ النَّاسَ منازلَهم، دون وَكْسٍ ولا شَطَط.. ومِن غيرِ غُلُوٍّ ولا إفراط!!
10- قال الأوزاعيُّ: مَن أكثرَ ذِكْرَ المَوْتِ: كفاهُ اليسيرُ، ومَن عرفَ أنَّ مَنْطِقَهُ مِن علمه: قلَّ كلامُهُ...
قلتُ:
فَلْيَتَّقِ
اللهَ -تعالى- كُلُّ مَن نَسِيَ الموتَ، وغابَ عنهُ -بِذا- موضعُ
منطقِهِ، وصارَ يُهْذِي بِما يُؤْذِي، ويَكيل التُّهَمَ والطُّعونَ في
كُلِّ مُخالِفٍ بغيرِ تقوَى ولا وَرَع!
فأينَ هُو مِن ربِّه العظيم -أين هُو-؟!
11- كانتْ أُمُّ الأوزاعيِّ تدخُلُ منزلَهُ، وتتَفَقَّدُ موضعَ مُصلاّه، فتَجِدُهُ رَطْباً مِن دُموعِهِ باللَّيْلِ..
قلتُ:
أمّا نحنُ؛ فإنَّنا نَرتجِي رحمةَ الله وعفوَه...
فواغَوْثاهُ...
{ويَعْفُو عن كَثِير}.
12- قال الأوزاعيُّ لابنِهِ: يا بُنَيَّ! لو كُنَّا نقبلُ مِن النَّاسِ ما يَعرِضُونَ علينا؛ لأَوْشَكَ أنْ نَهونَ عليهم...
قلتُ:
إنَّها عِزَّةُ النَّفْسِ العاليةُ الغاليةِ...
فأين هي -اليومَ-؟!
13- قال الأوزاعيُّ: عليكَ بآثارِ مَن سَلَفَ، وإنْ رَفَضَكَ
النَّاسُ، وإيَّاكَ وآراءَ الرِّجالِ، وإنْ زَخْرَفُوهُ لك بالقولِ؛ فإنَّ
الأمرَ يَنْجَلِي وأنتَ على طريقٍ مُستقيم..
قلتُ:
فالمنهجَ المنهجَ -رعاكُمُ اللهُ- بالحقِّ للحقِّ-...
14- قال الأوزاعيُّ: إذا أرادَ اللهُ بقومٍ شرًّا فَتَحَ عليهم الجَدَلَ، ومَنَعَهُم العَمَل...
وفي لَفْظٍ عنهُ -رحمهُ اللهُ-: إنَّ المُؤمنَ يقولُ قليلاً، ويعملُ كثيراً...
وإنّ المُنافقَ يتكلَّمُ كثيراً، ويعملُ قليلاً.
قلتُ:
أكادُ -والله- أنْ أقولَ:
إنَّ
أكثرَ مُناوَشات ومُناورات كَتَبَة الإنترنت -اليومَ- ممّن هُم على هذه
الشاكِلَة؛ إغراقاً في الجَدَل، وإدباراً عن العمل -إلاّ مَن رَحِمَ
اللهُ-...
ولولا
اضطرارُنا للدِّفاعِ عن الحقِّ الذي نحنُ عليه -وذلك مِن فضلِ الله-؛
لَسَكَتْنا عن باطلِهِم، ولَـمَا أجَبْناهُم على هِذْيانِهِم!...
............................ وليس على المُضطَرِّ إلاّ رُكوبُها!
15- قال الأوزاعيُّ: كَتَبَ إليَّ قَتادةُ مِن البصرةِ: إنْ كانَت
الدَّارُ فرَّقَتْ بينَنا وبينَك؛ فإنَّ أُلْفَةَ الإسلامِ بينَ أهلِها
جامعةٌ.
قلتُ:
فكيفَ
الشَّأْنُ بمَن قد يكونُ جارَكَ الأدنَى، ثُمَّ لا تدفعُهُ أُلفةُ
الإسلامِ الجامعةُ لِوُدِّكَ وحُبِّك -حسداً، وبَغياً، وصَلَفاً-؟!
شتَّانَ شَتَّانَ...
16- قال صَدَقَةُ بنُ عبدِ الله: ما رأيتُ أحداً أحلمَ، ولا أكملَ، ولا أحملَ -فيما حَمل- مِن الأوزاعيِّ!!
قلتُ:
فأينَ هي هذه الصِّفاتُ -اليوم- يا قوم-؟!
لا نكادُ نَراها إلاّ في كتاب.. أو تحت تراب!!
17- قال الأوزاعيُّ: كُنَّا نضحكُ ونَمْزَحُ، فلمَّا صِرنا يُقتدَى بِنا، خشيتُ أنْ لا يَسَعَنا إلاّ التبسُّمُ!
قلتُ:
إنَّهُ تقديرُ المَواقِفِ، وإدراكُ المَآلات، ومعرفة الحقوق...
وكُلُّ ذلك يَكادُ -اليومَ- أنْ يكونَ هَباءً منثوراً، وخَبَراً مكبوتاً؛ لا منشوراً...
واللهُ المُستعانُ!
وأخيراً:
لا تَعْرِضَنَّ بذِكرِنا مع ذِكْرِهِم *** ليس الصحيحُ إذا مشَى كالمُقْعَدِ!