ساحات الحوار
عصرنا عصر انفتاح، تكسرت فيه الحدود والسدود، وتحطمت الحواجز، يحكى عن بشر بن مروان- وكان يُظنُّ به شيء من الغفلة- أنه ضاع له صقر في المدينة؛ فأمر بإغلاق أبوابها لئلا يذهب الصقر، ونسي أنه يطير في الفضاء.
نحن اليوم في عصر الفضاء، وفي عصر الإنترنت، حتى الحكومات أدركت أن أسلوب المنع والحظر والتشويش لم يعد يجدي، وأن الحل الوحيد هو النزول إلى الميدان، ومقابلة الحجة بالحجة.
مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات، من الآراء والتوجهات والأقاويل، مما يعتقدون وما لا يعتقدون، وما يدركون وما لا يدركون، ولم يعد مُجدياً تسفيه الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم، أو تفاهة حججهم، بل لابد من الاستماع إليهم، ومنحهم الأهمية والاحترام، ومقارعة الفكر بالفكر، فالتناسب بين الداء والدواء ضروريٌ حتى يتقبل الجسم العلاج، وينتفع به.
لقد أصبح الإنترنت وساحات الحوار ـ وهي كثيرة جداً تعد بالمئات باللغة العربية، فضلا عن التعليقات في كل مواقع الإنترنت ـ مرآةً تكشف الخلل الكبير في آلية الحوار، وفي تجاهل الكثيرين لدائرة المتفق عليه بين المؤمنين والمسلمين، وأهل العلم، وأهل الدعوة، وأهل السنة، وهي دائرة واسعة جداً ، سواءً فيما يتعلق بالدين وفهمه، أو فيما يتعلق بالمصلحة وإدراكها وتحقيقها، أصبح هناك تجاهل كبير لدائرة المتفق عليه، وعمل واسع على دائرة المختلف فيه، وترتب على ذلك سلبيات في هذا الحوار الإلكتروني كثيرة، منها:
1) إن لم تكن معي فأنت ضدي، أو بمعنى آخر إما صفر أو مائة في المائة؛ فهناك المفاصلة بل والمقاصلة، بمجرد أن أكتشف أن بيني وبينك نوعاً من الاختلاف أو التفاوت ـ حتى لو كان في مسائل جزئية أو صغيرة ـ نتحول إلى أعداء ألداء، بدلاً من أن نكون أصدقاء أوفياء.
2) الخلط بين الموضوع والشخص؛ فيتحول نقاش موضوع معين، أو فكرة، أو مسألة إلى هجوم على الأشخاص، وتجريح واتهام للنيّات، واستعراض لتاريخ هذا الإنسان أو ذاك، وبالتالي تتحول كثير من الساحات إلى محيط للفضائح والاتهامات وغيرها من الطعون غير المحققة.
3) تدنّي لغة الحوار، وبدلاً من المجادلة بالتي هي أحسن تتحول إلى نوع من السب والشتم، وكما يقول الأئمة الغزالي, وابن تيمية, والشاطبي, وغيرهم أنه لو كان النجاح والفلاح بالمجادلة بقوة الصوت والصراخ أو بالسب والشتم لكان الجهلاء أولى بالنجاح فيه، وإنما يكون النُّجْحُ بالحجة والهدوء، وفي المثل: العربة الفارغة أكثر جَلَبَةً وضجيجاً من العربة الملأى.
4) القعقعة اللفظية؛ التي نحقق بها أوهام الانتصارات الكاسحة على أعدائنا، ونحرك بها مسيرة التنمية والإصلاح لمجتمعاتنا زعماً وظناً، وقد تسمع من يقول لك: كتب فلان مقالاً قوياً، فتنتظر من هذا المقال أن يكون مقالاً عميقاً، أبدع فيه وأنتج، وخرج بنتيجة جيدة، أو أحصى الموضوع من جوانبه؛ فإذا بك تجده مقالاً مشحوناً بالألفاظ الحادة والعبارات الجارحة ، التي فيها الإطاحة بالآخرين الذين لا يتفقون معه؛ فهذا سر قوة هذا المقال عند بعضهم.
5) الأحادية، وأعني بها: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" بحيث يدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره، التي ليست شرعاً منزلاً من عند الله تعالى، ولا قرآناً يُتلى، ولا حديثاً، ولا إجماعاً، وإنما هو رأي قصاراه أن يكون صواباً.
6) القطعية؛ وأعني بها قولي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب،
7) ثم هناك التسطيح والتبسيط، فالأشياء التي لا نفهمها أو يشق علينا فهمها، أو تحتاج إلى روية وتأمل وتدبر، هي أشياء خاطئة ومخالفة للحق، ومخالفة للسنة، بينما الأشياء البسيطة السطحية السهلة الفهم يُخيل إلينا أن فيها الحق والصواب، وأنها الموافقة للكتاب، وهكذا ما تجده في القنوات الفضائية، فكم من برامج الحوارات التي تُدار, ويتناطح فيها أقوامٌ من كافة الاتجاهات والمذاهب والمشارب؛ فتجد الصخب واللجاج، وانتفاخ الأوداج، والصفاقة والإحراج، وخذ إليك بعض الأمثلة التي وقفت