فقه الطعام في شهر الصيام
د. محمد عمر دولة
لا ريبَ أنَّ الإمساكَ عن الطعامِ رُكنٌ من أركانِ الصومِ؛ وإن كان الصومُ لا يختصُّ بتركِ الطعامِ والشرابِ، كما قال الشاعر:
صُمْتَ عن كلِّ قبيحٍ ** وأثـامٍ وحــرامِ!
لا كـقَوْمٍ عن شرابٍ ** صومُهمْ أو عن طعامِ!
ومع ذلك فالصائم مأمورٌ بمُراعاةِ بعض
آداب الطعام والشراب في شهر الصوم:
منها تعجيل الفطر، وتأخيرُ السحور، وأن يُفْطِرَ على تمراتٍ فإن لم يجدْ فعلى حَسواتٍ من ماء. قال ابن القيِّم في شأنِ هَدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصوم: "كان يعجِّل الفطر ويحضُّ عليه، ويتسحَّر، ويحضُّ على السحور ويؤخِّره، ويرغِّب في تأخيرِه. وكان يحضُّ على الفطر بالتمر، فإن لم يجدْ فعلى الماء؛ وهذا من كمالِ شفقتِهِ على أُمَّتِهِ ونُصحِهِمْ؛ فإنَّ إعطاءَ الطبيعةِ الشيءَ الحلوَ مع خُلُوِّ المعدة أدعى إلى قبولِهِ وانتفاعِ القُوَى به، ولاسيما القوة الباصِرة؛ فإنها تقوى به، وحلاوةُ المدينةِ التمرُ، ومَرْباهم عليه، وهو عندهم قوتٌ وأدمٌ ورُطَبُهُ فاكِهةٌ، وأما الماءُ فإنَّ الكبد يحصل لها بالصوم نوعُ يَبَسٍ؛ فإذا رطبتْ بالماء كَمُل انتفاعُها بالغذاء بعده؛ ولهذا كان الأولى بالظمآنِ الجائعِ أن يبدأ قبل الأكلِ بشربِ قليلٍ من الماء، ثم يأكل بعده؛ هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثيرٌ في صلاحِ القلبِ لا يعلمها إلا أطباءُ القلوب"!
[2] فوائدُ تركِ الطعام:
ذكر العلماءُ من فوائدِ تركِ الطعامِ أنه "قهرٌ لعدوِّ الله؛ لأنّ وسيلةَ العدوِّ الشهوات؛ وإنما تقوى الشهواتُ بالأكلِ والشُّرْبِ، وما دامت أرضُ الشهواتِ مُخصِبَةً؛ فالشياطينُ يتردَّدُون إلى ذلك المرعى؛ وبترك الشهواتِ تضيق عليهم المسالك"!
ومَنْ تَدَبَّرَ قولَ اللهِ - تعالى -في الحديث القدسي: (يترك طعامَهُ وشرابَه وشهوتَه من أجلي؛ الصيامُ لي وأنا أجزي به!) أدركَ الإشارةَ إلى أنّ الصائمَ يتقرَّبُ إلى الله - عز وجل - بتَرْكِ أعظمِ شهواتِ النفس: من الطعام والشرابِ والجِماعِ! كما قال ابنُ رجب: "في التقرُّب بترك هذه الشهوات بالصيامِ فوائد: منها: كسرُ النفس؛ فإنَّ الشبعَ والرِّيَّ ومباشرة النساء؛ تحمل النفسَ على الأشر والبطر والغفلة، ومنها:تخلِّي القلبِ للفِكرِ والذِّكرِ؛ فإنَّ تناولَ هذه الشهواتِ قد تُقسي القلب وتُعميه وتحول بين العبد وبين الذِّكر والفِكرِ وتستدعي الغفلة، وخُلُوُّ الباطنِ من الطعامِ والشرابِ يُنوِّرُ القلبَ ويُوجب رِقَّتَه، ويُزيل قسوتَه...ومنها: أنَّ الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطانِ من ابنِ آدم؛ فإنَّ الشيطانَ يجري من ابن آدمَ مجرى الدم؛ فتسكن بالصيام وساوسُ الشيطانِ، وتنكسر سَورةُ الشهوة والغضب؛ ولهذا جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصومَ (وِجاءً) لقطعِهِ عن شهوةِ النِّكاح".
[3] ليس طعامُ الدنيا غنيمةً:
فمن أعرافِ العربِ ذمُّ المتلهِّفِ على الطعامِ، كما وَرَدَ في قولِ الشنفرى:
وإن مُدَّتْ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ ** بأعجلِهم إذْ أجشعُ القومِ أعجلُ!
وقال ابنُ نباتة:
أَعيذُكَ مِنْ مولىً بطيءٍ عن النَّدى ** سريعٍ إلى دَاعي الطعامِ مُكالِبِ!
كما أنهم ذكروا فضلَ الزهدِ في الطعامِ، كما قال ابنُ نباتة يمدح مَلِكاً:
مَلِكٌ إذا حضرَ الملوكُ رواقَه ** سَجَدَ العزيزُ له سجودَ الصَّاغِرِ!
طَيّانُ يَزْهَدُ في الطَّعامِ لِعِلمِهِ ** أَنَّ الطَّعامَ يَصِيـرُ شرَّ مصائِرِ!
ونبَّهَ العلماءُ على ضررِ الإكثارِ من الطعام، فقالوا:
لا باركَ اللهُ في الطعامِ إذا ** كان هلاكُ النفوسِ في الـمِعَدِ!
كَمْ أَكْلَةٍ داخَلَتْ حَشا شَرِهٍ ** فأخْرَجَتْ رُوحَهُ من الجسدِ!
ونصَّ بعضُهم على فائدة تركِ الطعامِ في علاجِ بعضِ الأمراض، كما قال الكاساني: "مِن الأمراضِ ما ينفعُهُ الصوم، ويخفِّفه، ويكون الصومُ على المريض أسهلَ من الأكل؛ بل ويشتد عليه".
[4] ذمُّ الشراهة:
ولله درُّ ابن رجب حيث قال: "لربما ظنَّ بعضُ الجُهّالِ أنَّ الفطرَ قبل رمضان يُراد به اغتنامُ الأكل؛ لتأخذ النفوسُ حظَّها من الشهواتِ؛ قبل أن تُمنَعَ مِن ذلك بالصيام؛ ولهذا يقولون: هي أيامُ توديعٍ للأكل، وتسمَّى تنحيساً واشتقاقه من الأيام النحسات... وأصلُ ذلك مُتلَقَّى من النَّصارى؛ فإنهم يفعلونه عند قُرْبِ صِيامِهم. وهذا كلُّهُ خطأٌ وجهلٌ ممن ظنَّه، وربما لم يقتصرْ كثيرٌ منهم على اغتنامِ الشهواتِ المباحة، بل يتعدَّى إلى المحرَّمات؛ وهذا هو الخسرانُ الـمُبين. وأنشد لبعضِهم:
إذا العِشرونَ مِن شعبانَ وَلَّتْ ** فواصلْ شُربَ ليلِكَ بالنهارِ!
ولا تشربْ بأقـداحٍ صغـارٍ ** فإنَّ الوقتَ ضاق عن الصِّغارِ!
وقال آخر:
جاء شعبانُ مُنذِراً بالصِّيامِ ** فاسْقِيانِي راحاً بماءِ الغمامِ!
ومن كانت هذه حاله؛ فالبهائمُ أعقلُ منه! وله نصيبٌ من قولِهِ - تعالى -: (ولقد ذرأنا لجهنَّم كثيراً من الجنِّ والإنسِ لهم قلوبٌ لا يفقهون بها)الآية وربما كره كثيرٌ منهم صيامَ رمضان؛ حتى إنَّ بعضَ السفهاءِ من الشعراءِ كان يسبُّهُ! وكان للرشيد ابنٌ سفيهٌ فقال مرةً:
دعاني شهرُ الصيامِ لا كان من شهرِ! ** ولا صمتُ شهراً بعدَهُ آخرَ الدهرِ!
فلو كان يعـديني الأنـامُ بقدرةٍ ** على الشهر لاستعديتُ على الشهرِ!
فأخذه داءُ الصرع؛ فكان يُصرَع في كل يومٍ مراتٍ متعدِّدة، ومات قبل أن يُدركَه رمضانٌ آخر... أين هؤلاء الحمقى من قومٍ كان دهرُهم كله رمضان: ليلُهم قيام، ونهارُهم صِيام؟! "
[5] ذمُّ التخمة والشبع:
وقد عدَّ أهلُ العلمِ الشبعَ من مُفسِدات القلب، كما بَيَّنَ ابنُ القيم - رحمه الله - ضررَ الشبعِ المفرط على المسلم؛ فإنه "يُثقِلُه عن الطاعات، ويشغله بمزاولةِ مؤنة البطنة ومحاولتها؛ حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرُّفها ووقاية ضررِها، والتأذِّي بثقلها، وقوَّى عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسَّعها؛ فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فالصوم يضيِّق مجاريَه ويسد عليه طرقه، والشبع يطرقها ويوسِّعها؛ ومن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً، فخسر كثيراً! "
ولله در القحطاني حيث قال:
لا تحشُ بطنَكَ بالطعامِ تسمُّناً ** فجسومُ أهلِ العلمِ غيرُ سِمانِ!
لا تتبعْ شهواتِ نفسِكَ مُسرفاً ** فالله يبغضُ عابداً شهـوانِي!
أقللْ طعامَكَ ما استطعتَ فإنه ** نفعُ الجسومِ وراحةُ الأبـدانِ!
حصنُ التداوي المجاعةُ والظما ** وهما لفـكِّ نفوسِنا قيدانِ!
أظمأ نهارَكَ تُروَ في دارِ العلا ** يوماً يطولُ تلهُّفُ العطشانِ!
[6] ترك الطمع والجشع:
فالصوم يُرَبِّي المسلمَ على جهادِ النفس؛ ذلك أنَّ الصائم "يجد الطعامَ الشهيَّ يُطبَخ أمامَه، والروائح تهيج عصاراتِ معدتِهِ؛ والماءُ العذبُ الباردُ يترقرقُ في ناظِرَيْهِ؛ فيمتنع منه منتظراً وقتَ الإذنِ الرَّبَّانيِّ بتناولِه"!
وقد ذمَّ العلماء أقواماً "للجسدِ وحدَه يعملون، ولإشباعِ غرائزِ الدنيا ينشطون، وحول بطونِهم وفروجِهم يدورون! نشيدُهم الدائم:
إنَّـما الدنيا طـعامٌ ** وشَـرابٌ ومَـنامْ!
فإذا فـاتَكَ هـذا ** فعَـلَى الدنيا السَّلامْ! "
وما أحسنَ ما قيل في ذمِّ صاحِبِ الطمعِ والجشَع:
صَدِّقْ ألِيَّتَهُ إن قال مجـتهداً ** لا والرَّغِيفِ! فذاك البِرُّ من قَسَمِهْ!
قد كان يُعجِـبُني لو كان غَيرتُهُ ** على جُرادِقِهِ قد كان في حُرُمِهْ!
إنْ شِئتَ قَتْلَتَهُ فافْـتِكْ بخُبْزتِهِِ ** فإنَّ مَوْقِعَها من لَحْمِهِ ودَمِهْ!
[7] الحكمة في الجوع:
وقد قال قديماً طبيبُ العرب الحارث بن كلدة: "المعدةُ بيتُ الداء، والحميةُ رأسُ كلِّ دواء"! ومما يُنسَب إلى بعضِ الحكماء: "يا بُنَيَّ إذا امتلأت المعدة؛ نامت الفكرة، وخرست الحكمة"!
وإنما كان الجوعُ من صفاتِ الصالحين؛ "لأنه أحدُ أركانِ المجاهدة؛ فإنَّ أربابَ السلوك قد تدرَّجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل؛ ووجدوا ينابيعَ الحكمةِ في الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك".
[8] الشفقة على الجائعين:
وقد ذكر ابنُ الهمام من فوائد الصوم "كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين؛ فإنه لما ذاق ألمَ الجوع في بعضِ الأوقات ذَكَر من هذا حالُهُ في عمومِ الأوقات؛ فتسارع إليه الرقةُ عليه فينالُ بذلك ما عند الله - تعالى -من حسنِ الجزاء، ومنها: موافقة الفقراء بتحمُّل ما يتحمَّلون أحياناً؛ وفي ذلك رفعُ حالِهِ عند الله تعالى"!
ولله درُّ ابنِ القيِّم حيث قال: "لما كان المقصودُ من الصيامِ حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتِها الشهوانيّة؛ لتستعدَّ لطلبِ ما فيهِ غايةُ سعادتِها ونعيمِها، وقَبولِ ما تزكو به مما فيهِ حياتُها الأبديّة، ويكسر الجوعُ والظمأ من حِدَّتِها وسَورتِها، ويُذكِّرُها بحالِ الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجاري الشيطانِ من العبد بتضييقِ مجاري الطعامِ والشراب، وتحبس قُوى الأعضاء عن استرسالِها لِحُكْمِ الطبيعةِ فيما يضرُّها في مَعاشِها ومَعادِها، ويُسكِّن كلَّ عضوٍ منها وكل قوة عن جماحِهِ، وتُلجَم بلجامِهِ؛ فهو لِجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربِين، ورياضةُ الأبرارِ والمقرَّبِين"!
[9] الصيام دُرْبَةٌ على الصَّبْرِ:
وقد استنبط القشيري من قوله - تعالى -: (ولنبلونَّكم بشيءٍ من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفُسِ والثمرات وبشِّر الصابرين). أنَّ الله - تعالى -قد "بشَّرهم بجميلِ الثوابِ في الصبر على مقاساة الجوع".
وما أحسنَ قولَ ابن عاشور في ذكر فوائد الصيام أنه "يحصل للإنسان دربةٌ على ترك شهواته؛ فيتأهل للتخلق بالكمال؛ فإنَّ الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعفُ التحمل للانصرافِ عن هواه وشهواته:
إذا المرءُ لم يتركْ طعاماً يحبُّهُ ** ولم يَنْهَ قلباً غاوِياً حيثُ يـَمَّما
فيوشك أن تلقى له الدهرَ سُبَّةً ** إذا ذُكرتْ أمثالُها تملأ الفما! "
فتمثَّلْ أخي الصائم رحمك الله بقول أبي ذؤيب الهذلي:
جمالَكَ أيها القلبُ القريح ** ستلقى مَن تحبُّ فتستريح!
[10] للصائم فرحتان:
وقد روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح ـولمسلم (فرح بصومِهِِ) ـ وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومِهِ)! قال ابنُ حجر: "أي بجزائه وثوابه".
ولله دَرُّ أبي إسحاق الألبيري حيث قال:
سُجِنتَ بِها وَأَنتَ لَها مُحِبٌّ ** فَكَيفَ تُحِبُّ ما فيهِ سُجِنتا
وَتُطعِمُكَ الطَعامَ وَعَن قَريبٍ ** سَتَطعَمُ مِنكَ ما مِنها طَعِمتا!
وما أصدقَ قولَ :
أَلَيسَ قَريباً كُلُّ ما هُوَ آتِ ** فَما لي وَما لِلشَكِّ وَالشُبُهاتِ
أُنافِسُ في طيبِ الطَعامِ وَكُلُّهُ ** سَواءٌ إِذا ما جاوَزَ اللَهَواتِ!
وما أحسنَ قولَه:
أَذَلَّ الحِرصُ وَالطَمَعُ الرِقابا ** وَقَد يَعفو الكَريمُ إِذا اِستَرابا
وَحُقَّ لِموقِنٍ بِالمَوتِ أَلاَّ ** يُسَوِّغَهُ الطَعامَ وَلا الشَرابا
وتعلَّق الفضلاءُ بطعامِ أهلِ الجنة، كما قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -:
هذا وتصريفُ المآكلِ منهمُ ** عَرَقٌ يَفِيضُ لهم من الأبدانِ
كروائـحِ المسكِ الذي ما فيـه خلـط غيره من سائر الألوانِ
فتعودُ هاتِيك البطونُ ضوامرا ** تبغي الطعامَ على مدى الأزمانِ!
لا غائطٌ فيها ولا بولٌ ولا ** مخطٌ ولا بصقٌ من الإنسـانِ!
ولهم جُـشاءٌ ريحُهُ مسكٌ يكــون به تمام الهـم بالإحسانِ!