لافت للكثيرين هذا النشاط المكثف للكاتب المصري المخضرم محمد حسنين هيكل أثناء وبعد المفاوضات القائمة في الدوحة لإيجاد حل للأزمة اللبنانية، وهو أمر مألوف من أي محلل سياسي أو خبير استراتيجي يتفاعل باطراد مع الأحداث المؤثرة، بيد أن الاهتمام الزائد الذي لا تخطئه العيون لاسيما في هذه السن المتقدمة للرجل تشي بأن ثمة ما يمكن أن يجاوز خطى التحليل السياسي المرافق للقضايا الهامة والمصيرية في حاضر المنطقة، إلى ـ ربما ـ رسائل تجد طريقها لآذان تعودت أن تسمع من الصحفي الشهير.
ولعل البعض يبدي انزعاجه من تلك الرسائل المراد توجيهها من الكاتب البارز بأكبر مما تزعجه التحليلات السياسية ذاتها، وتزيد من حدة الانزعاج تلك، ما يترتب على شيوع الفكرة التي تطلق أحياناً بشكل يبدو ارتجالياً فيما تتزاحم من خلفه الأهداف، وعلينا أن نتخيل مثلاً كيف يكون وقع كلمة يلح عليها هيكل في أكثر من مناسبة عن التفكك كأصل في السودان وتطفل الحالة الوحدوية عليه، حين يسمعها الرئيس السوداني عمر البشير وأركان حكمه أو الوطنيون والوحدويون، وما الذي يتبادر إلى ذهن رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة وهو بعد في الدوحة يستعد لمنح خصومه السياسيين بعد معركة بيروت أكثر مما كان يصر عليه قبلها؟!
إنها بالتأكيد كلمات تشكل مصدر إزعاج حقيقي، كان من السهل جداً شم رائحته في خطاب الرئيس المصري الراحل أنور السادات قبل مقتله بـ26 يوماً، وملاحظة تجاعيد ألمه في وجه الرئيس العائد للتو من الولايات المتحدة الأمريكية مفاجأ بمقالات هيكل سبقته إلى هناك ناقدة لسياسته، ومن ثم تذوق مرارته في تلك الكلمات التي انطلقت كالرصاص من فم الرئيس: "الراجل لازم يضمن زي عادته خيوطه مع كل الجهات.. بعنوان "رياح الثورة تهب من جديد على الشرق الأوسط" نشرتها جريدة الوطن الكويتية تناول تحليلاته وآراءه بالنسبة للثورة الإيرانية بقيادة الخوميني.. هو بيضرب ويلاقي.. أشاد بالثورة والإمام الخميني ومحاولة الربط صراحة بين هذه الثورة وبين الثورة المصرية عام 52، مقرراً أن هناك ارتباطاً بين الثورتين على الرغم من أن الثورة المصرية نبعت لظروف الشعب من القوات المسلحة، بينما الظروف التاريخية ساعدت المذهب الشيعي في إيران للقيام بثورته.. إنه يمكن خلق علاقة متوازنة بين القيم الدينية والتنفيذ العلماني والسياسي لهذه القيم، هو يحب دائما يبان علشان ما حدش يأخذ عليه عملية الدين دي.. ليه؟ لأن هو في عملية الدين زي ما قال لي أنا شخصياً ـ واليوم لم يعد من حقي أن أخفيها أبدا ـ وزي ما يعرفه كل من عملوا معه في الأهرام أو في غيرها هو رجل لا يؤمن بالأديان، وهو ملحد ويهزأ بالصيام في رمضان علناً في الأهرام، كان وبيطلع علناً الظهر يتغذى ويلم الناس هناك فوق الأهرام، وقال لي أنا ملحد فهو هنا يرده خايف لا مش يتهموه بأنه بتاع الدين والكلام دا، فقال يعني متوجه بين القيم الدينية والتنفيذ العلماني".
الانزعاج الذي أبداه السادات ودفعه إلى البوح بهذه الأسرار عن الرجل ـ ادعائها أياً كان ـ إنما تولد نتيجة لشعور الرئيس المحنك أنه بصدد رسائل تلقى في توقيت محدد ولغاية سياسية تفوق بكثير مهمة العمل الصحفي، ولعل السادات وقتها قد شعر بغرابة توجه هيكل إلى تأييد ثورة الخوميني؛ فقال: "الخوميني اللي بيكتب عليه النهاردة إن ثورة إيران زي ثورة مصر، والكلام دا كله ما رأي الصحفي صديق الرؤساء في السلاح الذي تبيعه إسرائيل للخوميني باتفاق رسمي معروفة أصبحت معروفة العملية سلاح وقطع غيار من إسرائيل لإيران"، يدفع إلى الاعتقاد بأن الأمر كان يجاوز في حس السادات مسألة "صراع الأفكار"، وتقديم الأطروحات والرؤى السياسية الاستراتيجية.. أما في حس الآخرين؛ فربما كان كاشفاً لعلاقة استحسان لا يكاد يخفيها الكاتب العربي الأبرز للثورة الإيرانية وحلفائها اللاحقين، وتتضح بجلاء حينما يجافي هيكل اعتراف الأمين العام لـ"حزب الله" نفسه ـ أو لنقل افتخاره للدقة ـ يوم الثلاثاء الماضي "أنا من حزب ولاية الفقيه"؛ فيدافع هيكل بصلابة بعد اعتراف نصر الله بساعات فقط "حسن نصر الله نظلمه عندما نقول إنه رجل أو عميل إيران في لبنان".
لا أحد ظلم نصر الله إلا إذا كان قد ظلم نفسه!!، ولابد أن الكاتب القدير والذي زار مرشد الثورة الإيرانية الأول علي موسوي الخميني ورأى لبنات البناء السياسي الإيراني في أوله يفهم على وجه الدقة ما الذي تعنيه ولاية الفقيه واستحقاقاتها التي تفرض على أتباعها الدينونة بالولاء لمرشد الثورة لا الرئيس اللبناني، لا ولا حتى زعيم القومية العربية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، لو كان حيا.
أيضاً، عندما تجاهل هيكل كمراسل حربي بارع في الحرب العالمية الثانية أن 600 مرتزق مفترضين للموالاة لم يكونوا أبداً عند أي مخطط عسكري هاوٍ ـ فضلاً عن محترف ـ في وارد كسر السيادة العسكرية لـ"حزب الله" على لبنان، والتي تعد بعشرات الآلاف علاوة على الدعم العسكري المتاح عبر الحدود، وحين قال تحديداً: "هذا الاغتيال لمغنية وتدخل 600 عنصر أتوا بهم لضرب حزب الله جعل حزب الله يحسم الأمر بسرعة وينزل بقواته إلى بيروت، فقد ظن أن القوة المضادة لحزب الله يمكن أن تواجه الحزب في هذه اللحظة وأن تهزمه بدون أن يتحرك"!!
والمفارقة في ذلك أن "حزب الله" ذاته لم يعلق سبب تدخله إلا على قراري الحكومة اللبنانية اللذين يقضيان بعزل مدير أمن المطار وتفكيك شبكة الاتصالات السلكية لـ"حزب الله"، بينما "التحليل السياسي والعسكري" قاد هيكل إلى الاعتقاد بأن سبب النزول إلى الشارع إنما كان بسبب هؤلاء المرتزقة المفترضين.
وإذا كان التحليل السياسي حمّال أوجه ـ كما تقدم ـ؛ فهل الحكم في قلب نادي القضاة المصري، يمنح مطلقه حق التشكيك في ضلوع النظام السوري في عملية اغتيال الحريري ـ وقد يكون أو لا يكون الأمر كذلك ـ والجزم في اللحظة ذاتها بـ"تواطؤ ثلاثة أجهزة أمن عربية" في قتل القيادي العسكري بـ"حزب الله" عماد مغنية ـ على حد قول هيكل ـ، والذي لم يقدم معه دليلاً واحداً أمام القضاة!!
ثم أخيراً، ما الهدف الذي رنا الكاتب الشهير إليه، عندما خالف معظم التقارير الأممية والغربية والشرقية، وطمأننا بكل ثقة، ومن خلال تساؤله "البريء" الذي يبعد السقف الزمني لأعوام: "كيف نخاف من قنبلة نووية ستصنعها إيران في أقل تقدير خلال ما بين 8 و10 سنوات"؟!
نحترم بلا جدال ذكاء واحتراف وقدم تجربة الأستاذ هيكل، لكن لا مناص عن أن نحترم عقولنا ونربأ بها عن أن تكون خزينة أفكار معولبة ورؤى خارجية مجمعة محلياً، ونولي معطيات عودنا الكاتب البارز أن نحترمها، اهتماماً يحفظها خارج دائرتي النسيان والانبهار.