حينما تحدث الإسلام عن التعارف أراد أن يكون ذلك خلُقًا للمجتمعات, وبالتالي فلا بد أن يكون متوفرًا على مستوى الأفراد, حتى يتحقق في عالم الأرض, فهو خلق عالمي:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).. ويقول تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13).
وبالتأمل في الآية الكريمة نجدها تذكرنا بثلاث قواعد مهمة:
الأولى: الوحدة الإنسانية، أي أن الناس جميعًا يشكِّلون أمةً واحدةً، "كلكم لآدم وآدم من تراب".
الثانية: التنوع الإنساني في قوله: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ أي بإرادة إلهية, وهذا التنوع وجوده تجسيد لهذه الإرادة الإلهية.
الثالثة: التعارف، وهو الهدف من هذا التنوع الإلهي؛ تحقيقًا لوحدةٍ تحفظ التنوع وتحترمه وتصونه في قوله تعالى: ﴿لِتَعَارَفُوا﴾.. فما معني التعارف؟!
هو الرابطة القوية التي تربط بين جماعات الناس المتنوعة, وليس هناك تعارف بين الناس إلا بعد معرفة بينهم، والمعرفة دائمًا تبدأ من الاختلاف؛ إذ ما قيمة المعرفة لأناس متفقين؟ وعلام يتعارفون ولا اختلاف بينهم؟!
ولبناء مجتمع متناغم إنساني واحد على قاعدة معرفة المختلفين وتعارفهم جاءت الآيات الكريمة واضحةً جليةً:
1- يقول تعالى:﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ (يونس: من الآية 19).
2- يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)﴾ (هود).
3 – ويقول تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( (الشورى).
الاختلاف آية
يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)﴾ (الروم)، وأي اختلاف عِرقي فهو اختلاف داخل الأسرة الإنسانية الواحدة، يحتِّم احترام الآخر كما هو، وعلى الصورة التي خلقه الله تعالى عليها، يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 148) ويقول تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ (الحج: من الآية 67)، ومعنى ذلك: مع اختلاف الألسنة والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج، وهذا ما أكد عليه القرآن في قوله تعالى: ﴿.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)﴾ (المائدة).
فالاختلاف العرقي أو المذهبي أو الديني أو العرفي باقٍ حتى قيام الساعة، والفن في التعامل معه مع بقائه لا يكون بإلغائه ولا بتجاهله ولا بتهميشه، بل بالتعرف عليه وتقديره واحترامه وتقبله كسنة من سنن الله في الكون.
التعارف سنه كونية
1- سنة التداول:﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 140) فالتداول هو الحياة، ولا حياة بدون تعارف، والنهاية والتوقف هو الموت، حيث يموت التعارف.
2- سنة التدافع: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)﴾ (البقرة) وليس بالتصادم والتحارب وإنما بالتنافس الذي هو إصلاحٌ للمجتمعات، بل اعتبره البعض من مستلزمات عدم الفساد في الأرض.
3- سنة التغاير: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (الأنعام: من الآية 38) ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ﴾ (يونس: من الآية 47)، ولذلك فلا استكمال لسنة التغاير إلا بالتعارف بقواعده السابقة.
التعارف يكون على نفس المستوى
ولكي يكون التعارف ناجحًا لا بد أن يكون على نفس مستوى المتعارفين؛ بحيث لا يكون هناك مسامح ومتسامح، وقد بين الله ذلك في ثلاث آيات:
الأولى: ﴿.. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)﴾ (البقرة).
الثانية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾ (آل عمران).
الثالثة: ﴿.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾ (فصلت).
فالوحدة الإنسانية هي الإطار والتعارف والاعتراف بالآخر، ليس خارج هذا الإطار، فهي وحدة في إطار التنوع الإنساني الطبيعي الإلهي.
تعارف الاختيار والحب
ولذلك فالعلاقة التي يريدها الإسلام تقوم على الاختيار لا الإكراه، ولذلك فهي بعيدة عن سياسة الفرض أو الإجبار التي تؤدي دائمًا إلى تنكّر الآخر وتجاهله، والنتيجة الطبيعية لذلك: هي البغضاء والكراهية.
ولو أنها قامت كما أمر الإسلام على الاختيار بين المختلفين، لحلَّ محلَّها الحوار والتواصل والتفاهم والتقبل، وكانت النتيجة والثمرة هي المحبة والتآخي والثقة والاحترام وانتشار الحب بين المختلفين.
وهذا من أجمل أنواع التعارف بين الناس، وبهذا المفهوم يصبح التعارف في حياة المجتمعات هو التعاون والتحالف والتبادل والتكامل، بل كافة أشكال العلاقات، وحينئذٍ تختفي الحروب؛ فالناس أعداء ما جهلوا، وخصوم ما لم يتعرف أحدهم على الآخر، فمن كان يظن أن المغول الذين عثوا في الأرض فسادًا وكانوا أشدَّ أعداء الإسلام هم الذين يحملون لواءه وينشرونه بعد أن أسلموا، وما ذلك إلا لأنهم تعرَّفوا على الإسلام والمسلمين.
حاجتنا إلى التعارف
فما أمسّ حاجة مجتمعاتنا اليوم إلى تحقيق التعارف بالمفهوم الإسلامي، ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى المجتمع الدولي؛ حيث تنتهي صور التعارف المغشوش من أجل المصالح والغايات، أو من أجل الهيمنة والسيطرة أو الإضعاف والإذلال، وهو ما نراه اليوم في المشروع الأمريكي الجائر، والصلف الصهيوني الغادر، فأي تحالف لاحتلال البلاد وتخريب الأوطان؟! وأي تعاون للسيطرة على الخيرات ونهب الثروات؟! وأي تبادل بين قوي سارق وضعيف مسروق؟! وأي تكامل بين لص مخادع وهدف مستغفل؟!
وما أحوجَنا أن نتعارف في داخل مجتمعاتنا مهما كان الاختلاف بكافة أشكاله، من أجل مجتمع آمن مستقر, فالتعارف درب المحبِّين.
منقوووووول