إنه موضوع مطروح للمناقشة للاستفادة
بتعدد الآراء فيه، ليأخذ كلٌّ بما يناسب ظروفه وأحواله وثقافاته وبيئاته
ليسعد، إذ بَعد كتابة مقالة "النفس المظلومة!" (يُرجى مراجعتها) تَبَادَر
للذهن السؤال التالي: هل صفات العُجْب والغرور والكِبْر والحقد والحسد
والشرك والنفاق والرياء والجبن والبخل ونحوها، ممَّا تعارفنا أن نطلق عليه
"أمراض القلوب" هي أمراض القلب فعلا؟! أم هو فقط مُتّهَمٌ بها والأمر كله
من مظالم العقل حين يستسلم لوساوس الشيطان ويُصدّقها ويتبعها مُنخدعًا بأن
فيها منفعته؟! ثم يعكس ذلك الجسد بتصرفاته والتي تُمليها عليه إرادة عقله
الذي هو قائده؟
إنَّ المسلم حين يستيقظ صباح كل يوم
مُحَمَّلاً بهموم مصارعة ومجاهدة قلبه المليء بالأمراض (والقلب والفؤاد
والنفس والروح والفطرة والوجدان والضمير والباطن والمشاعر كلها مرادفات
لمعنى واحد عند كثير من العلماء) لمجرَّد خواطر تدور بذهنه منها، فإنه قد
يستقبل يومه أو يُنهيه بكآبة وتعاسة وشعور ٍبتقصير ٍأو إحباط ٍأو استثقال
ٍللمُهمّة، وقد يستهلك فِكرَه لمقاومتها وعلاجها بما يشغله عن الانطلاق
التام المُمتِع في الحياة.
بينما لو عَلِمَ أنها كلها مجرّد
خواطر تمُرّ بعقله، وأنَّ نفسه تحمل كل الصفات الحسنة التي تؤهله للسعادة
في الدَّارين كما يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)﴾ (الشمس)
وأنها معه تساعده لا ضده تعوقه، وأنه بمجرد تغيير وتهذيب أسلوب تفكيره
العقلي، وإحسان توجيهه وانشغاله بالإيجابي النافع، ستتوجه كل طاقاته للخارج
دون أيّ تشتيت ٍلمحاربةِ داخل نفسه، وحينئذ ٍسينطلق في دنياه يستكشفها
بكامل قواه العقلية والنفسية والجسدية بمنتهى التجانس والانسجام بينها
جميعًا، فينتفع بها أكثر انتفاع ٍمُمكِن من غيره، فيكون أسعد إنسان على وجه
هذه الأرض؛ لأنه المسلم الذي َفِهمَ نفسه وربه ودينه وحياته وآخرته
إنَّ
لفظ "القلوب" كثيرًا ما يأتي في سياق آيات القرآن الكريم والأحاديث
النبوية الشريفة وشروح بعض العلماء عليها بمعنى العقول، كما يقول تعالى
مثلاً: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (البقرة: من الآية 7) والذي قال
فيه الإمام ابن عادل في تفسير "اللباب":
".. كثيرًا ما
يُرادُ به العقل.."، وقال فيه الإمام السمرقندي في بحر العلوم: "ومعنى
الختم على قلوبهم أي ليس أنه يذهب بعقولهم، ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون
بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنون"،
وقال فيه الإمام
ابن عاشور في التحرير والتنوير: "وليس الختم على القلوب والأسماع ولا
الغشاوة على الأبصار هنا حقيقةً كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن
عطية، بل ذلك جار ٍعلى طريقة المجاز، بأن جعل قلوبهم أي عقولهم.. كأنها
مختوم عليها.. والمُرادُ من القلوب هنا الألباب والعقول، والعرب تُطلق
القلب على اللحمة الصنوبرية وتطلقه على الإدراك والعقل.. ومقرّه الدماغ لا
محالة، ولكن القلب يمده بالقوة ((أي: بالدم وما يحمله من غذائه)) التي بها
عمل الإدراك".. وقال أيضًا: عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ (الحشر: من الآية 9) أريد بالوجدان
الإدراك العقلي".
وبما أنَّ "أمراض القلوب" ما هي إلا خواطر
عقلية عند بعض العلماء فإنها يُعفى عنها عندهم ولا حساب عليها ولا إثم ما
دامت لم تُترجَم إلى قول ٍأو عمل، كما يُفهَم من قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم". (رواه
البخاري ومسلم) والذي قال فيه الإمام النووي في "شرح مسلم": "قال الإمام
المازري رحمه الله:.. ويُحمَل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أنّ ذلك
فيمن لم يُوطن نفسه على المعصية، وإنما مَرّ ذلك بفكره من غير استقرار".
وقال
فيه الإمام ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحِكم عند شرحه لحديث: "إن
الله كتب الحسنات والسيئات.. فمن همّ بحسنة.. وإن همّ بسيئة.. ": ".. رُوي
عن سفيان أنه قال في سوء الظن إذا لم يترتب عليه قول أو فعل فهو معفو عنه،
وكذلك رُوي عن الحسن أنه قال في الحسد..".
فهكذا خلق الخالق
سبحانه العقل وبَرمَجه على التفكير في الخير، ثم سَمَحَ له بالتفكير في
الشر، ليُقارن ويُميّز بين الأول وسعاداته والثاني وتعاساته فيحرص بشدة على
ما يُسعده ويلفظ بقوة ما يُتعسه، فيحيا حياةً سعيدةً ثم آخرة أسعد، ولأنه
لو لم يسمح بالشر لمَا أحس بقيمة الخير دون وجود ضده. (راجع مقالة: "برمجة
العقل، للخير أم للشر" لمزيد من التفصيل والتوضيح).
إنَّ كل
المشاعر الإنسانية الجميلة كالحب والتعاون والتراحم وغيره، هي في الأصل من
الناحية الطبية تتمركز في مراكز المُخ، أي: العقل، كما يُثبت العلم ذلك.
إنَّ
تعبير الله تعالى أو رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالقلب عن مدارك
العقل قد يُقصد به الإشعار بأهميتها وتأثيرها الهائل، من أجل التشبّث بها
والحرص عليها، إذ القلب هو رمز حياة الإنسان وأكثر أعضائه تأثّرًا بفكر
مُخّه، وبمرضه تمرض الحياة وتتعس، وبدونه تتوقف وبصلاحه تصلح وتسعد، كما
يُفهم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المعروف: ".. ألا وإنّ في الجسد
مُضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(جزء من حديث رواه البخاري ومسلم) والذي قال فيه الإمام العيني في عمدة
القاري: "وقد يُعبَّر به عن العقل"، وكما يُفهَم من تفسير الإمام القرطبي
لقوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (البقرة : من الآية 7) حيث
قال: ".. خالص كل شيء وأشرفه قلبه.. وقد يُعبَّر به عن العقل، قال الله
تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ ( ق: من
الآية 37) أي: عقل.."
إنَّ علاج هذه الأمراض سهلٌ ميسورٌ
بإذن الله، فبما أنها خواطر عقلية، فلينشغل إذن العقل عنها بما هو أهمّ
وأنفع، وسينساها في الغالب تلقائيًّا وتدريجيًّا، هكذا بكل سهولة، كما
يُثبت الواقع ذلك معنا في حالات كثيرة، فلينشغل بالتخطيط لحياة سعيدة،
ولينشغل بأن يُحيط كل خططه بالتعامل بأخلاق الإسلام مع الجميع صدقًا
وأمانةً وتواضعًا وحوارًا وتكاملاً ونحو هذا بما لا يدع له وقتًا أصلا
لممارسة خلق ٍسَيِّئ ممّا يدور في ذهنه أو حتى مجرد التفكير فيه، ولينطلق
ممتلأ بعائد كل ذلك سعادة هائلة في دنياه، وثوابًا عظيمًا في أخراه.. أو
ليعلم أنّ العكس قد يُصيبه إذا اختلت أخلاق عقله.
فلتراجع
أخي الحبيب أيها الداعي لله وللإسلام ما سبق ذكره على عقلك، فإن أصاب بعض
الإقناع عندك فاجتهد بالحسنى والتدريج في تغيير عقول المدعوين ومفاهيمهم،
والتي هي أيضًا تحمل مشاعرهم وأحاسيسهم.
واجتهد في تذكرتهم
بأن يتعاملوا مع قلوبهم (أو نفوسهم أو مداركهم) أنها معهم لا ضدهم، تحثهم
على كل خير ليسعدوا، وتذكرّهم به، وتدفعهم للعودة إليه سريعًا عند أيّ بُعد
ٍعنه بسبب استجابة عقولهم لوساوس شياطينهم، وبهذا سيُرّكزون جهودهم التي
يستنفدونها في مقاومتها ومجاهدتها على إصلاح حياتهم وإسعادها، فتصلح وتسعد.
واجتهد
في توصيتهم بأنّ أيّ أمراض عندهم في نفوسهم هي من صُنع عقولهم، وبالتالي
سيسهل تغييرها بمجرد تغيير أسلوب تفكيرهم نحو الخير لا الشرّ، وبمجرد
تواجدهم بين صحبة صالحة تفعل ذلك.. لتسعد وتثاب.
__________________