تحفل الأمثال الشعبية, وكذلك حكايات الواقع, بالكثير مما يشير إلى العلاقة الملغومة بالمشاحنات بين الأم وزوجة ابنها. لكن آلية حدوث الالتباس في هذه العلاقة نادراً ما تخضع لمحاولة التفسير أو الفهم, بأمل تغييرها إلى المسارات الأفضل. وهاهي محاولة للفهم.
ترحب الأم بعروس الابن, وتسعد بها, وتساهم ببعض مالها في ثمن الشبكة, وتهديها بعض حليها, وبعد عقد القران تلح على ابنها وزوجته أن يعيشا معها: فهي وحيدة والشقة واسعة, وبها من الحجرات ما يكفي كل الأثاث الجديد, وسوف يتبقى لها حجرة تكفي كل ما هو ضروري لها بعد أن تتخلص مما تبقى من أثاثها القديم.
يبدو هذا الاقتراح مرضيا لكل الأطراف: للأم وللابن وللعروس وللحفيد القادم الذي سينمو في رعاية الجدة, وحنوها وخبرتها في تربية الأبناء. إنه اقتراح يوفر نقودا وسكنا مريحا وتواصلا بين الأجيال. وهو اقتراح لا يحرم الأم من ابنها, ولا تعاني معه آلام انفصاله عنها, ولا تكابد في فراغ الشقة الكبيرة وحشة افتقاده, ولعلها قد تنعم برعاية الابن وزوجته لها, وتلبية حاجاتها من الطعام والدواء, بالإضافة إلى ونس الصحبة, وبهجة الحفاوة بالمولود, وأنس الزائرين من ضيوف الابن والزوجة.
وينقل الابن فعلا أثاث بيته إلى شقة أمه, وتسكن معه عروسه في الحجرات التي أخليت من الأثاث القديم.
ولكن الهالة الوردية لمشروع الحياة كما تخيلته الأم والابن والزوجة سرعان ما تتلاشى, وتتحول تدريجيا من الأبيض الشاحب إلى الرمادي القاتم إلى الأسود الحالك.
لقد انفجرت في البيت الهادئ قنبلة استقرت شظاياها في قلب الأم وقلب الابن وقلب الزوجة.
إن تيارا من العداء والكراهية والبغضاء ينمو بين الأم والزوجة, بل وبين الأم والابن. فمن أين أتت موجات الظلام التي انداحت وتدافعت حتى طمست شمس الحلم البسيط الذي كان حافلا بالوعود ؟
تراكم القطرات السوداء
في ظني أن تلك الموجات المظلمة هي ذروة تراكم عديد من القطرات السوداء التي ظلت تهمي فوق البيت بإصرار وتواصل ودأب.
وأولى هذه القطرات جهل الأم والابن والزوجة ببعد من أبعاد المشروع/الحلم: إن كل الأطراف كانت تنظر للشقة باعتبارها مجموعة من المساحات الخالية التي ما أسهل إعادة ترتيب محتوياتها.
وهذا يعني أنهم لم ينظروا إلا للبعد المكاني للشقة مع تجاهل تام لبعدها الزماني. ولكن ما الذي نعنيه بالبعد الزماني ؟ ما نعنيه أن هذه الشقة ظلت لسنوات طويلة المسرح الذي تلعب فيه الأم الدور الرئيسي: فهي الزوجة وربة البيت وأم الأولاد, وهي العقل المفكر الذي يتولى التأثيث والتنسيق والتجميل, والذي يدبر إيراداته بحيث تكفي مطالبه, ويوفر المدخرات لمواجهة الظروف الطارئة ويقوم بتربية الأبناء وتوجيههم ومراقبتهم... إلخ.
وتأتي الزوجة بأثاثها الجديد ومطبخها الجديد وأجهزتها المنزلية الجديدة فتقتحم المكان بعنف ورعونة, وتتعامل مع الأثاث القديم باعتباره أطلال بيت تصدع وانهار بعد أن ظل لفترة طويلة آيلا للسقوط, وتتعامل مع الأم باعتبارها مومياء تنتمي لزمان قديم. وانطلاقا من هذا المفهوم فهي تقيد حركتها في حجرتها المعزولة والمنبوذة, وتتجاهل وجودها معظم الوقت, وتتعالى على استقبال ضيوفها, وتحول دونها والوقوف في مطبخها لإعداد بعض الطعام, بل وتمانع في أن ترعى الجدة حفيدها بحجة أن كل ما تعلمته الأم من أصول التربية قد أصبح باليا وتقليديا وأبعد ما يكون عما أتت به علوم العصر من معارف طبية ونفسية وتربوية.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحياة الجديدة توهم بتواصل الأجيال دون أي انقطاع, في حين أن الابن قد انفصل عن الأم بيولوجيا ونفسيا ليستقل بنفسه ويصنع مع زوجته أسرة جديدة. وهذا الانفصال يحدث جرحا عميقا في نفس الأم أشبه بالجرح الذي يحدثه بتر عضو من أعضاء الجسد.
وبدلا من أن يحرص الابن وزوجته على الرفق بالأم والحنو عليها حتى تتكفل الأيام بالتئام ذلك الجرح يندفع كلاهما بنفس الرعونة لتعميقه, والتصرف بجهل وحمق نحو تأكيد الانفصال والتباعد والاستقلال عن الكيان الأمومي الذي تغرب شمسه.
تُرى هل عرفنا الآن سر العداوة والبغضاء التي نمت في هذا البيت ؟ وهل عرفنا لماذا أمرنا الإسلام بأن نبر أمهاتنا, وأن نحنو عليهن, وأن نغمرهن بكل ما في قلوبنا من حب ورحمة ؟.