عبدالله شعبان عضو مجلس اداره
عدد المساهمات : 4364 نقاط : 12043 التقييم : 4 تاريخ الميلاد : 12/07/1969 تاريخ التسجيل : 21/09/2009 العمر : 55 المزاج : هادىء تعاليق : اللهم من اعتز بك فلن يذل ، ومن اهتدى بك فلن يضل ، ومن استكثر بك فلن يقل ، ومن استقوى بك فلن يضعف ،
ومن استغنى بك فلن يفتقر، ومن استنصر بك فلن يخذل ، ومن استعان بك فلن يغلب ، ومن توكل عليك فلن يخيب ،
ومن جعلك ملاذه فلن يضيع ، ومن اعتصم بك فقد هدى إلى صراط مستقيم،اللهم فكن لنا وليا ونصيرا ، وكن لنا معينا ومجيرا ،
إنك كنت بنا بصيرا
| موضوع: دبركى بلدنا المنسية10 2009-12-23, 04:09 | |
| غواص
ربيع النفوس لا يموت د. مبروك عطية أستاذ ورئيس قسم اللغويات ــ كلية الدراسات الإسلامية ـ جامعة الأزهر
منذ ثلاثين عاما أو يزيد ونحن طلاب في المعهد الديني الأزهري, ننهل من معين لا ينضب, ونتتلمذ لشيوخ نذروا حياتهم للعلم, قلوبهم خزائن كتب, وألسنتهم صدي لما في هذه الكتب من قضايا ومشكلات, ألفيات لا ألفية واحدة كنا نحتفظ ببعضها لكثرة تكرار الشيوخ لها, كنا فتيانا أقوياء, لا ننام إلا قليلا, إذا عدنا من الأزهر هرعنا إلي الحقول نساعد آباءنا وإخواننا في أعمال الزراعة, وكنا نعتذر لهم عن الوقت الذي ضيعناه في الدراسة, ولم نعمل معهم منذ طلوع الفجر, كي نستسيغ اللقمة الحلال التي وصلت إلينا بعرقهم وعملهم المضني. وكان قبولهم تلك المشاركة منا شهادة رضا, كان حصولنا عليها بغية لنا, فأخطر ما يعانيه الإنسان أن يعيش في جو من الغضب, والإحساس بالظلم, فقد كان الرجل الفلاح في قريتنا دبركي وغيرها من القري يعد مظلوما إذا كان له ولد في مدرسة أو معهد, أو جامعة, لأنه لا يستفيد من عمله معه في الغيط, وما يتطلبه من أعمال الحرث والبذر, والري ومتابعة الماشية, وغيرها, إن الفلاح في زماننا كان يحتاج إلي أيد عاملة, ومن ثم كان معظمهم يحمد الله أن له من الأبناء الذكور عددا لا بأس به تناسته المدرسة, فنشأ في رجليه, منذ نعومة أظفاره يجر العنزة, ويركب الحمار, ويناول أباه الوتد الذي يربط فيه البقرة, ويركب إلي جواره( النورج) في دراسة القمح, وينام في حضنه في( حلة) الذرة, ويستمع إلي أناشيده, ويرجع وراءه بعض الكلمات والمقاطع, فيصير فلاحا ماهرا قوي الساعد دون عناء تعليم أو توجيه, أما إذا نشأ غلامه في المدارس, فتقل صلته بأعمال الفلاحة, فإذا جاء وقت المساعدة الخفيف الضعيف, أخطأ في بعض الأمور, فكانت كلمات أبيه أو أخيه( إوعه.. إوعه.. هات الفاس.. مش كده يا أستاذ) أشد من ضرب السياط علي جسمه العاري في يوم شديد الحرارة, لأنه وإن كان يتعلم ويعرف(VerbtoBe) و(VerbtoHave) ويحفظ القرآن الكريم ومئات الأحاديث وألفية ابن مالك, ومتخصص في مذهب الشافعي أو مالك, يكره( مش كده) لأنه يشعر معها بالفشل, وهو ابن فلاح, والفلاح أشد الناس كرها للفشل, ويتجرع الفتي ترع المرارة لا كأس مرارة واحدة, ويكاد يبكي لهذا الفشل, ويعود من جديد يرجو من نزع الفأس من يده أن يردها إليه فقد أدرك الصواب, وعرف ما أنسيه بسبب انشغاله بمسألة الكحل في النحو( ما رأيت أحدا أحسن في عنيه الكحل من عين زيد) بضم لام( الكحل), وفي ذهنه ما فرضه الفقهاء من مسائل منها: لو قال رجل لامرأته: أنت طالق في ليلة القدر, أو إن دخلت الدار إن كلمت فلانا, فأنت طالق, أو ما أرسل به الرشيد إلي أبي يوسف من قول الشاعر, فأنت طلاق والطلاق ثلاثة. برفع ثلاثة ونصبه, كما تطلق علي النصب وكم تطلق علي الرفع, ويتعب أبو يوسف في حل المسألة, ويقول: والله ما لها إلا الكسائي, ويذهب إليه, ويجد الجواب علي لسان الإمام اللغوي القاريء الكوفي: تطلق مرة واحدة بالرفع, وتطلق ثلاثا بالنصب, فيبعث بالجواب إلي أمير المؤمنين, فيرسل إليه الهدايا والصلات فيعطيها جميعا للكسائي لأن الجواب جوابه, ثم يعود ذهنه إلي من قال لامرأته أنت طالق في ليلة القدر, ويقلب آراء الفقهاء فيها, فمنهم من قال: لا يقع الطلاق إلا في العشر الأواخر, ومنهم من يقول: يقع الطلاق بعد انتهاء رمضان, ومنهم من يقول: إذاجاء رمضان وقع الطلاق, ومنهم من يقول إذا قال لها ذلك وقد مضت العشر الأوائل من رمضان فلا يقع الطلاق إلا في رمضان من العام القادم وينتهي حتي تتم سنة, لأن ليلة القدر تكون في السنة كلها, ومرجع الخلاف في أي الأيام تكون ليلة القدر, ويستحضر قول الشيخ أستاذ الفقه حين قال: قال رجل لامرأته وهي علي السلم: إن صعدت فأنت طالق, وإن نزلت فأنت طالق, وإن وقفت فأنت طالق, فرمت بنفسه فلم يقع الطلاق, فقيل في تلك المرأة: والله إن مات ما لك لا نشقي وفينا مثلك. ويربط الطالب الشيخ الأزهري الصغير بين هذا المشهد وبين تصرفات أمه, التي يرجع إليها القوم آخر النهار والجوع شديد, والحاجات كثيرة, وهؤلاء المجهدون المتعبون يعلمون أن الدار خالية من الفلوس, لا تعريفة فيها ولا قرش صاغ, ومع ذلك يجدون طعاما شهيا, تبدو رائحته الطيبة معطرة أجواء الدرب والسرب والحارة, ويعلمون أنها تصرفت, كيف تصرفت؟ إما أنها باعت البيض, وإما أنها التقطت بعض نبات( الرجلة) الذي ينبت هكذا ربانيا( لا شيطاني فالشيطان لا ينبت زرعا) ودارها تغص بالبصل والثوم والزبدة التي ما كانت تؤذي أحدا أبدا, لأن عمل الحقل يحرق كل مجمع للدهون وغير الدهون, وما شكا الناس أمراضا إلا بسبب الأكل والتعود, أما الفلاح الذي لم تكن له آلة ميكانيكية سوي سواعده فما كان يشكو زبدة ولا دهونا, ولا كان ذاكرش, فبطنه ملصوق بظهره مشدودة عضلاته, نحاسي جسده, وإما أنها وجدت دجاجة انقطع بيضها, وبان عجزها, وقلت حركتها, فذبحتها بالهناء والشفاء, ودست طاجن الرز المعمر عقب رمية الخبيز. وقالت: تفضلوا, لم تكن الكهرباء قد دخلت القري* فكان الليل من كبري النعم, سكون تطلبه النفوس المرهقة ويطلبها, لا تسمع إلا همسا, أو صوت بقرة يعلن شفاؤها بعد وعكة قصيرة, فيقول الجميع: الحمد لله, شفي الله البقرة أو ترحب بربة الدار التي مرضت ليلة أو ليلتين, فلم تستطع أن تحلبها, وقامت بهذه المهمة ابنتها أو أختها أو جارتها, حيث كان الناس في القري أمة واحدة, وأسرة واحدة وإن تنوعت أساليب العيش و تعددت منازله, والبقرة في غياب من تقوم بعملية الحلب تشكو بثها وحزنها إلي الله, فلم تألف هذه اليد الجديدة, ولم تتناغم شرايينها مع أنفاسها, وبعد عناء وجهد تفوض أمرها إلي الله وتفرز ما أودعه الله فيها من لبن رحمة بأصحابها الذين يعيشون علي هذا الخير صباحا ومساء, فإذا عادت إليها صاحبتها هشت لها, وانفرجت أساريرها, وعبرت عن ذلك بصوت المحب الذي يلقي حبيبه بلغة لا يدركها المرء بآذانه وإنما يقف علي معانيها بوجدانه, وللوجدان لغة لا يعبر عنها اللسان, ولا تحتويها رغم إصغائها الآذان, وكان الضوء الذي ينبعث عن لمبة الكيروسين أكثر صفاء وبهاء من كبري الكشافات الكهربائية التي تجعل الملاعب الرياضية بالليل كأنها في نور الشمس, كان هذا الضوء الخافت يسمح بتصوير ظل البقرة والخروف والحمار علي الجدار, وكانت البنت الصغيرة تربيها أمها امرأة وزوجة علي أحسن ما تكون التربية دون إلقاء محاضرات, ورحم الله أهل العلم حيث قالوا: حال رجل في ألف رجل أنفع من وعظ ألف رجل في رجل, أي أن سلوك رجل يؤثر في ألف رجل, أكثر من تأثير ألف رجل يعظون رجلا واحدا, فالبنت الصغيرة تحمل اللمبة الصغيرة لأمها وهي تحلب, فإذا فرغت الأم من عملية الحليب, قامت البنت باللمبة تمشي أمام أمها في هدوء كأنها الدليل حتي تضع البوشة باللبن في مكانها من الصفة والصفة حجيرة صغيرة تقوم المرأة ببنائها من الطوب اللبن فوق سطح المنزل الدار تصعد إليها علي سلم خشبي فلا تهتز, وكأنها تدربت في سيرك و البنت أمامها ثابتة, وتفتح لها باب الصفة فتقول الأم سمي يابنت فتنطق بسم الله الرحمن الرحيم وتضع الأم إناء اللبن إلي جنب إخوته, وهي تبسمل ثم تقول: اللهم زد وبارك يارب... يارب يا الله ياحبيبتي ننزل وبكره إن شاء الله نخبز كذا ونعمل كذا, ونخض القربة ونعمل السمنة, فإن ابتسمت البنت وقالت أيوه أنا عايز فطير يا امه قالت لها في عتاب خفيف يابت مايبقاش همك علي بطنك.. ربنا يسهل دعوة إلي الشمللة لا إلي البطننة, فتنشأ البنت شملولة أي ماهرة بالعمل والإنتاج لا مستهلكة مع النوم والركود والرقود, وبمثل ما تعيش أمها في دارها تعيش البنت إذا بلغت وتزوجت, محاكاة السلوك, كمحاكاة اللغات, كان العمل المضني في الحقل يمنع الأرق بالليل, ففور أن يضع الناس رءوسهم علي المخدة يجدون النوم في انتظارهم واشتاقوا إليه واشتاق إليهم, لا جار يزعجه بـ كاسيت ولا صخب ولا سيارات, ولا أجراس تدق من باب أو هاتف أو محمول أو لعبة, فلعبة الأطفال ساكنة كالليل الساكن الوديع, كلها عرائس من قطن تحتويها قطع القماش البالية من جلابية قديمة بليت علي جسد الأب أو الأم, ثم بعثت هذه الجلابية البالية من جديد, كما يبعث الموتي فريق في الجنة وفريق في السعير, فمن تلك الجلابية توزعت قطع شتي, ولكل قطعة حظها في التوزيع, فتلك قطعة حشيت قطنا, وصارت وسادة تحظي برأس ليس فيه نية عدوان إلا علي الحشرات التي تهدد الثمر والحشائش التي تأكل غذاء البنات, والدعاء بالستر للبنين والبنات, وتلك قطعة صارت مصلحة للفرن, أسود ولونها بعد بياض أو خضرة أو زرقة, تمسح المرأة بها بلاطة الفرن, فتكوي في كل خبزة وتخرج من الفرن مدخنة, و توضع في إناء ماء فتسمع صوت الطشطشة, وتبصر الدخان كثيفا منها يطهرها, ذلك كي تنظف بلاطة الفرن الكبيرة وهي ملتفة بعود طويل من حديد يصول بها ويجول في ميدان الفرن البلدي, وتلك قطعة صارت لفة لوليد أو وليدة قبل أن يخترع شئ اسمه البامبارز والبيبي فاين, وتلك قطعة سكنت في حفرة في جدار الصفة تسدها لتمنع الفأر والحشرات من الهجوم علي اللبن والسمن, سكنت علي الجدار تشم أطيب الروائح ولا تأكل شيئا, رحم الله ثيابا بليت ثم بعثت إلي حياة جديدة تنازعتها الأغراض, فأحيت مواتها, وجددت وظائفها, فصارت بعد أن كانت تستر جسدا واحدا تستر عشرات الأجساد, فعود الحديد الذي كست رأسه تلك اللفافة بدون لباس, وجدار الصفة المخروم يتريش بتلك القطعة كما تتريش الحسناء بالفرير الغالي الثمين, الفرو الذي يبدو للناظرين علامة أبهة وثراء, وأسترجع اليوم الذي كانت المرأة تتناول فيه هذه الجلابية للتقطيع, كانت تخاطبها وتحدثها, وتسترجع اليوم الذي لبستها فيه لأول مرة منذ عامين أو ثلاثة, وتقول: ياحبيبتي ياجلابية ياما كلت بيك رز وملوخية وعشت بيك ليالي هنية.. ياوش السعد ياجلابية, وترد عليها امرأة أخري تغريها وتشد من أزرها فتقول لها: يا أختي تعيشي وتدوبي مية, وربما قالت ترد عليها: لا والنبي يا أختي دي غالية قوي عليه, كل شئ في قريتنا كان له قيمة, كل النفايات كانت توضع في كومة السباخ, فيفيد منها الزرع, لم يكن شئ يذهب جفاء, كل شئ يمكث في الأرض, فكل شئ ينفع الناس, والربيع في قريتنا كان ربيعا لا يموت, كان ربيعا لا يعقبه خريف, لأن ربيع بلادنا ربيع نفوس, وربيع النفوس لا تذبل أوراقه, ولا ييبس عوده, ولا ينضب معينه, فالخضرة تكسو الحقول طول العام. وتسر الناظرين طول العام, والخضرة بساط لا حد له, حيث كانت المساحة الزراعية رحبة الآفاق, قبل أن تهجم المسلحات علي الأرض الزراعية, ما كان في قريتنا أحد علي عينيه نظارة طبية لا يشكو أحد قصر النظر, لأن مجال النظر ممتد طويل, والعندية كانت متعلقة بالنظر, إذا قال إنسان لأخيه: هل تحتاج إلي شئ, قال له: عندك نظر, وإذا قال له: أترغب في الزواج من رشيدة؟ قال له: عندك نظر, ولرشيدة حكاية وعبقرية بلاغية, وفلسفة اجتماعية نتناولها إن شاء الله من سجل الليالي المطوية من تاريخ دبركي المنوفية*
المقال منشور بجريدةالعربى 27 ربيع ثان 1424ه 5 يونية 2004 السنة 123 ا العدد 376 | |
|