لن تصل الثورة إلى أهدافها النهائية ولن تستقر الأوضاع، ولن تبدأ مصر الجديدة رسميا طالما ظلت حالة الشك هى المسيطرة على العلاقة بين كل أطراف المعادلة الثورية، وظلت حالة الاستعجال فى الحكم والتقييم هى الحاكمة للغة الخطاب لدى الجميع، وخاصة شباب التحرير الذين أثبتت المظاهرة الأخيرة وما صاحبها من جدل وخلاف بينهم أنهم يحتاجون الآن إلى وقفة جماعية مع النفس لإجراء مراجعة دقيقة لما تم خلال المرحلة الماضية منذ ليلة التنحى وحتى الآن، وقفة لا تغلب عليها روح التسرع، وإنما روح المصارحة والحساب العقلانى لينتهوا إلى نتيجة واحدة يجتمعون عليها ويتحركون بمقتضاها يد واحدة، كما كانوا قبل 11 فبراير عندما هزت وحدتهم أرجاء العالم وليس مصر فقط، لكنهم الآن يعانون بداية أمراض الانقسام التى كثيرا ما أضاعت على مصر فرصا غالية وعبقرية لتحقيق التغيير المنشود.
بداية لا ينكر أحد أن هناك نوعا من البطء يشوب العديد من التحركات الحكومية، كما هناك للأسف قدر من الانفرادية فى اتخاذ العديد من القرارات والقوانين المطلوبة والتى كان من الأفضل أن تكون محل نقاش مجتمعى ولو محدود، لكن الأكيد والذى يعلمه كل الثوار قبل غيرهم أن هذا البطء والانفرادية ليست مقصودة ولا هى وسيلة لإفشال الثورة أو تفريغها من مضمونها كما يروج البعض، فلا المجلس الأعلى للقوات المسلحة يقبل هذا أو يتورط فيه ولا الدكتور عصام شرف ووزراء حكومته الذين اكتسبوا شرعيتهم الأولى من التحرير يمكن أن يتآمرون عليه، وإنما الأمر فى الغالب لن يزيد عن أن الحكومة والمجلس العسكرى يعملان فى ظل ظروف استثنائية يحاولون بشتى الطرق المرور منها بأقل قدر من الخسائر للبلاد سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى، فيتعاملون مع الأحداث بقدر من الحساسية يجعلهم حريصون على التحرى والتدقيق قبل كل قرار، وأنا هنا لا أقدم مبررات فلا أنا متحدث رسمى باسم الحكومة ولا من المتيمين بأعضائها وربما لى عليهم العديد من الملاحظات، لكنى أقدر الظرف الضاغط الذى يعملون فيه، واستشعارهم الحرج فى كثير من الأحيان إضافة إلى إحساسهم أنهم لا يتمتعون بشرعية تمنحهم القوة اللازمة لإنجاز المهام سريعا، ولعله لا يخفى على أحد أن بعض الوزراء يعملون الآن وهم يعلمون أن مصيرهم على كف عفريت ربما لا يكملون فى الوزارة يوما واحدا، وبعضهم يبذل من الجهد لإقناع الناس بنفسه والتبرؤ من تهمة النظام البائد أكثر مما يبذل لإنجاز مهام وزارته، وبالطبع فى ظل مناخ مثل هذا لا يمكن أن يتم الإنجاز كما يتوقع الكثيرون.
بالتأكيد تحتاج الحكومة إلى أن تكون قوية أكثر من هذا وأن تتمتع بثقة فى النفس، كما يحتاج المجلس العسكرى ألا يترك الحكومة بلا حساب، بل عليه أن يزيد من اجتماعاته مع شرف ورجاله لمراجعة حصاد الفترة الماضية وما تم خلالها من إنجاز للتكليفات الوزارية، وما لم يتم ولماذا وكيف يمكن تسريع عجلة الإنجاز الحكومى، لكن أيضا وفى المقابل فإن الثوار عليه الكثير للحفاظ على ثورتهم الوليدة واستكمال مشوارها، ومثلما نجحوا بالعقلانية والذكاء أن يصلوا إلى مرادهم بإسقاط النظام عليهم أن يكملوا بنفس العقل والذكاء ويضيفوا إليهما الصبر والهدوء ليحموا ثورتهم.
عليهم أن يدركوا أن المجلس العسكرى معهم وليس ضدهم، يتقوى بهم وليس عليهم، مساند لهم وليس عبء عليهم، يسعى لإنجاز مهمته وتمليكهم بلدهم كما يريدونها دولة تستند على أسس تحمى الشرعية وتدعم الديمقراطية، لكنه فى الوقت نفسه يسير وسط أشواك لا تحتمل الخطأ ولا الميل حتى لا يفقد حياده ولا يتهم بالانحياز لتيار دون الآخر كما روج البعض لذلك قبل فترة.
على الثوار أن يضعوا أنفسهم مكان الدكتور عصام شرف وحكومته ويتخيلوا مدى صعوبة إدارة بلد تعانى انفلاتا أمنيا وترديا اقتصاديا ولخبطة سياسية وأطماع خارجية وداخلية.
وأعتقد أن الدور الأكبر الآن يقع على ذوى الخبرة من الثوار أصحاب التجارب، فهؤلاء عليهم بدلا من تهييج الشباب أن ينقلوا إليهم خبراتهم، وكيف يتعاملون مع الوضع الحالى بعيدا عن التهور الذى يمنح الفرصة لمن يندسون لتفجير الأوضاع وهدم المعبد على كل من بداخله ليفلتوا هم من العقاب، على وعلى أعدائى.
وربما يكون من التعقل إقناع الشباب بإطالة الصبر على حكومة شرف وعدم محاسبتها بالقطعة، وعدم الاستجابة لدعوات المساس بالقضاء فى هذا التوقيت تحديدا، وكذلك عدم الاستجابة لدعوات خبيثة للاحتكاك بالقوات المسلحة لفظا أو فعلا.
وربما يكون من التعقل أيضا عدم الانسياق وراء فكرة تقسيم مصر إلى فسطاطين، ثوار شرفاء وآخرون خونة وعملاء، فرغم أن الثورة قامت من الأصل ضد تحكم وتسلط وفساد الحزب الوطنى والنظام البائد، إلا أن هذا لا يعنى إعدام كل من كان ينتمى للنظام السابق أو للحزب الوطنى دون تحرى لمواقفهم، فليس كل من انتمى للحزب الوطنى أو النظام السابق أو عمل معه فاسدا وخائنا، بل منهم كثيرون شرفاء، أيا كان عددهم، ينتظرون الفرصة لإعلان التوبة والانضمام إلى الثوار، وعلى الثورة ألا تهمل هؤلاء فالثورة لا تغلق أبوابها ولا تسد طريق التوبة أمام أحد، وإنما عليها أن تستوعب الجميع، على الأقل الصالحين والراغبين فى التوبة عن جريمة الصمت على فساد طال لعقود، الثورة ثورة كل المصريين ولا تترك أحد خارج إطارها، بل تحتضنه، على الثوار أن يعلنوا أن الثورة ثورة 87 مليون مصرى فى الداخل والخارج ولا يخشون من ذيول وأذناب الحزب الوطنى والنظام البائد، بل عليهم أن يدعوهم للانضمام للعهد الجديد الذى سيقوم على دولة القانون الذى يمنع الفساد ويحارب المحسوبية، وقيمة هذا التحكم إن حدث أنه سيساهم فى حماية الثورة فلا يخفى على أحد أن جزءا مما يسمى الثورة المضادة الآن سببه الحقيقى قناعة أصحابها بأنهم لا مكان لهم فى العهد الجديد، فلا قبول لتوبتهم ولا تقبل لتواجدهم، ولهذا لا يشغلهم نجاح الثورة أو اكتمالها، وإنما يريدون هدمها لأنها فى نظرهم لا تعترف بهم، ولن يجنوا منها شيئا، وعلى الثورة أن تقول لهؤلاء إنها ليست ثورة عنصرية ولا انتقامية وإنما ثورة ضد الظلم والفساد، وكل من سيحارب الظلم والفساد سيكون واحدا من أبناء الثورة.