السد العالى
في عام2000, اختارت مجموعة من مؤسسات تصميم السدود والهندسة العقارية الأمريكية, سد مصر العالي الذي يمر اليوم47 عاما علي بدء العمل فيه, كأعظم مشروع بنية أساسية في القرن العشرين, وبالتالي في التاريخ, بعد منافسة حامية مع سد بولدر الأمريكي الذي بني علي نهر ريوجراند, وكان أحد أوائل السدود الضخمة في العالم, وأيضا مع الإمباير ستيت وهي أول ناطحة سحاب في العالم, وكان مبرر الاختيار هو أن السد العالي قد غير مصير شعب بأكمله.
وقبل أن تبني مصر سدها العالي كانت بلدا خاضعا لمشيئة نهر النيل الذي كانت فيضاناته العالية تغرق وتدمر وتؤدي لانتشار الأوبئة وتكلف مصر تكاليف باهظة لمكافحته, وكانت دورات الجفاف السباعية التي كانت تستمر لسبع سنوات متتالية وتتكرر كل قرن أو قرنين علي اقصي تقدير ويوجد شواهد عليها منذ عهد زوسر في الدولة الفرعونية القديمة.. كانت تلك الدورات الرهيبة تتكفل بالقضاء علي أكثر من ثلثي سكان مصر لتعيدها للوراء مرة أخري وتخرب بنيانها الاجتماعي. ومن يريد أن يستدل علي الآثار الرهيبة للجفاف يمكنه الرجوع لكتاب المقريزي إغاثة الأمة بكشف الغمة. كما أن تعداد سكان مصر الذي بلغ وفق أدني التقديرات أكثر من10 ملايين نسمة عند نقطة الميلاد قبل أكثر من ألفي عام, قد انهار إلي مجرد2.5 مليون نسمة في عهد محمد علي قبل قرنين من الزمان, وكان لدورات الجفاف السباعية دور مهم في ذلك, إلي جانب الظلم الاجتماعي والقهر الذي عاني منه المصريون, بخاصة الفقراء علي أيدي الحكام الأجانب وبالذات في العهدين المملوكي والعثماني.
وقد أعدت دراسات عدة من قبل البنك الدولي ومجموعات متخصصة في بناء السدود في ألمانيا وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة, ووزارة الأشغال العامة والموارد المائية في مصر, وأكبر خبراء تصميم السدود في العالم. وأجمعت كل تلك الدراسات علي الإمكانية الفنية لإقامة السد العالي وعلي الجدوي الاقتصادية الهائلة للمشروع, وبعدها تم اتخاذ قرار إنشاء السد علي غرار عملية اتخاذ القرار في أعرق الدول الديمقراطية, رغم أن مصر لم تكن بلدا ديمقراطيا.
ومنذ البدء في انشاء السد العالي, مر علي مصر عدد من الفيضانات العالية في سنوات مرتفعة الإيراد المائي بصفة عامة أولها في الأعوام1998,1996,1988,1975,1967,1964.
وكان السد العالي قد تعرض خلال سبعينيات القرن العشرين لهجوم ضار وجاهل ضمن الحملة علي عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر, لكن مع بداية الثمانينات صمت الكثيرين من المهاجمين للسد, عندما ضرب الجفاف الرهيب هضبتي البحيرات الاستوائية والأثيوبية لمدة سبع سنوات, فشح الإيراد المائي للنيل واضطرت مصر للسحب من مخزون السد العالي طوال سنوات الثمانينات العجاف, وحتي العام المائي1989/88 حينما أغيثت مصر بفيضان مرتفع, بعد أن كان مستوي المياه في بحيرة ناصر الي مستوي149 مترا ولم يبق سوي مترين حتي يصل منسوب البحيرة إلي مستوي147 مترا, وهو المنسوب الذي تتوقف عنده المحطة الكهرومائية وتتعرض التوربينات للتشقق, ولم يكن باقيا من المخزون المائي الحي في بحيرة السد العالي سوي6 مليارات متر مكعب... لقد أنقذ السد مصر خلال سنوات الجفاف في الثمانينات, فتحولت المناقشات حول السد الي تساؤلات تنطوي في غالبيتها علي الرغبة في الاطمئنان علي السد العالي وعلي مخزون بحيرته بعد أن ظلت عقول وقلوب المصريين معلقة به في سنوات الجفاف خلال الثمانينات والذي لم يمس بسوء بفضل سدها العالي.
وهناك حقيقتان تحددان الطبيعة الخاصة لنهر النيل: الأولي هي تقلب إيراد النهر علي مدار العام حيث يكون فياضا وجبارا في موسم الفيضان في الصيف, حيث ترد فيه كميات هائلة من المياه كان يضيع منها في البحر نحو32 مليار متر مكعب قبل بناء السد العالي, ثم يصبح النهر بعد الفيضان شحيحا وبطيئا في غالبية العام, وقد أدي هذا التقلب في إيراد النيل علي مدار العام الي التفكير في التخزين السنوي لاحتجاز المياه في شهورالفيضان واستخدامها في الشهور التي ينخفض فيها إيراد النيل.
والحقيقة الثانية هي التقلب الشديد في إيراد النيل بين عام وآخر. ويكفي أن نعلم أن أقصي إيراد للنيل عند أسوان سجل في العام المائي1879/1878 وبلغ151 مليار متر مكعب, في حين بلغ الإيراد المائي في عام1914/1913 نحو42 مليار متر مكعب, وبلغ الإيراد المائي عام1984/1983 نحو34,8 مليار متر مكعب, وهذا التقلب كان مصدرا للمجاعات والكوارث المروعة في مصر علي مدار تاريخها الطويل, وهو الباعث علي التفكير في التخزين المستمر الذي اصطلح علي تسميته بالتخزين القرني, وذلك لتخزين المياه في السنوات التي يكون الإيراد المائي فيها عاليا لاستخدامها في السنوات التي ينخفض فيها ايراد النيل. وكانت هناك مشروعات عديدة للتخزين القرني في البحيرات الاستوائية وفي السودان, ولكن عبد الناصر اختار مشروع السد العالي بدلا من تلك المشروعات, باعتباره خيارا وطنيا حتي يكون تحت سيطرة مصر ولاتصبح مصر رهينة لمشروعات مائية موجودة خارجها.
وقد وقف زعيم مصر الراحل جمال عبد الناصر وراء السد العالي بكل قوته. لكن ذلك لم يكن كافيا لتمويل بنائه الذي ذهبت التقديرات الي أن تكلفته تبلغ نحو210 ملايين جنيه مصري تكلفة انشاء السد ومحطته الكهرومائية, ترتفع الي400 مليون جنيه مصري اذا اضفنا اليها باقي تكاليف المشروع من ري وصرف واستصلاح واسكان ومرافق وطرق. واضافة الي هذه التكاليف هناك الفائدة عليها والتعويضات عن الأراضي التي ستغمرها المياه في مصر والسودان. وهذه التكاليف الهائلة كان من الصعب علي مصر تحملها وحدها, وهو مادفع الحكومة المصرية الي البحث عن مصادر خارجية للمساهمة في تمويل انشاء السد. وقد توجهت مصر الي دول الغرب والبنك الدولي في البداية لكنهم بعد مماحكات طويلة رفضوا التمويل وبصورة خبيثة ومهينة لمصر. وأشارت الولايات المتحدة في خطاب رسمي لوزير خارجيتها الي أن بلدا من أفقر بلدان العالم لايستطيع ان يتحمل تكاليف مشروع من اكبر المشروعات فيه, ثم إن مياه النيل ليست ملكا لمصر وحدها, وانما هناك آخرون علي مجري النهر لهم آراء اخري وانه يود اخطاره بأن هذا القرار اتخذ بعد مشاورات بين الرئيس والكونجرس.
وإزاء هذا الرفض الأمريكي للمشاركة في تمويل السد العالي بصورة تنطوي علي الاستخفاف بمصر وشعبها, لم يتأخر الرد المصري كثيرا, إذ ألقي الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر خطابه التاريخي في26 يوليو1956 وعرض فيه قصة مشروع السد العالي وتمويله وألقي قنبلته بتأميم قناة السويس من آجل تمويل السد.
وكم كان المشهد العربي رائعا.. حين عبرت الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال أو المقهورة بحكام عملاء وتابعين, عن وقفتها مع مصر بكل اشكال الاحتجاج وبضرب المصالح البريطانية والفرنسية من العراق وسورية الي عدن الي لبنان الي المغرب العربي. حقا كانت هناك امة تنهض من طول سباتها, وكانت معركة تأميم قناة السويس لتمويل بناء سد مصر العالي, والإدارة الملهمة لهذه المعركة من قبل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر, هي الشرارة التي فجرت بركان هذه الأمة لتهب في وقفة شجاعة مساندة لمصر ومعبرة عما هو مشترك بين كل الشعوب العربية من المحيط الي الخليج.
ولم يكن المشهد العالمي اقل روعة سواء من التظاهرات العارمة المؤيدة لمصر في عدد كبير من الدول المستقلة حديثا او الخاضعة للاستعمار او من التظاهرات التي شهدتها دول الغرب, الي الانذار السوفيتي لكل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل, والذي تضمن تهديدا نوويا صريحا.
وانتهي الأمر بانسحاب قوات العدوان الثلاثي, واستعادت مصر سيادتها وملكيتها لقناة السويس. وقد اتاح ذلك لمصر قدرة اقتصادية اضافية شكلت عاملا مساعدا علي تحمل تكاليف بناء السد العالي. وبعد مفاوضات قصيرة بين مصر والاتحاد السوفيتي, تم توقيع اتفاقيتين الأولي عام1958 والثانية عام1960, اقترضت مصر بموجبهما1300 مليون روبل( نحو325 مليون دولار بأسعار ذلك الحين) ويسدد القرض علي12 قسطا سنويا بعد فترة سماح تمتد حتي اتمام الاعمال التي يستخدم القرض في تمويلها, وكانت الفائدة تبلغ2,5% سنويا.
وبنت مصر سدها العالي الذي حمي البلاد من اخطار الفيضانات المدمرة وكون لها بنكا مركزيا للمياه هو بحيرة ناصر التي حمت مصر من مخاطر دورات الجفاف الرهيبة, ووفرت مصر19 مليار متر مكعب صافية من المياه عند اسوان بعد خصم فواقد البخر بما اتاح استصلاح واستزراع مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تفتقر للمياه, وزيادة انتاجية الأراضي بتوفير المياه للمحاصيل في اي وقت تحتاج فيه لها, وحولت مصر نحو670 الف فدان من ري الحياض الذي يزرع محصولا واحدا في العام الي ري دائم, وتم تحسين الملاحة في النيل بما انعش السياحة النيلية. أما المحطة الكهرومائية للسد العالي فإنها تولد في العام كهرباء تعادل الكهرباء المولدة من نحو2,5 مليون طن من النفط تبلغ قيمتها بأسعار العام الحالي نحو1,1 مليار دولار. أما الآثار الجانبية للسد مثل الاطماء والنحر وارتفاع المياه الجوفية وتآكل الشواطيء الشمالية في بعض المناطق وغرق النوبة وآثارها
فإنه جري مواجهة البعض بينما يحتاج الآخر للمزيد من الجهود المتواصلة من اجل مواجهته. وفي كل الأحوال يبقي سد مصر العالي هو مشروع البنية السياسية الاعظم في مصر والعالم, وهو المشروع الذي استنهض روح امة, وما احوجنا لاستنهاض روح البناء والتطور والتنوير في أمتنا العظيمة بمشروعات مناظرة للسد في اهميتها وجدواها لمواجهة كل التحديات الاقليمية والدولية التي تواجهنا في الوقت الراهن.